المرضي نفسيا في الشوارع .. مجرمون تائهون ام ضحايا لاهمال المجتمع ؟
وأشارت منظمة الصحة العالمية في إحصائية حديثة إلى أن المرضى نفسياً وعقلياً يُشكَلون أكثر من 20 % من سكان العالم، وثلث البشر مصابون بالقلق، وفي مدينة الرياض -حسب آخر إحصائية- ما يقارب العشرة آلاف مريض نفسياً يتجولون في شوارعها بلا رقيب ولا عناية. وعلى الرغم من وجود مستشفى للصحة النفسية في كل مدينة؛ إلا أنها غير كافية لاستيعاب الحالات الهائمة في الشوارع.
لا شك أن حوادث القتل الأخيرة تُعدّ سبباً لفتح ملف المرض النفسي من جديد، وخطورة وجود المرضى في الشوارع، ولعل السؤال المطروح الآن: “ماذا يحدث إذا لم يحصل هؤلاء المرضى على العلاج والرعاية اللازمة؟”.
حوادث نادرة
قال لـ”سبق” مدير عام إدارة الصحة النفسية والخدمة الاجتماعية بوزارة الصحة الدكتور “عبدالحميد الحبيب”: “إن المريض نفسياً مريض عادي ولا يمثل أي خطورة على المجتمع إلا في حالات نادرة، والحوادث متوقع حدوثها من أشخاص طبيعيين وليسوا مرضى نفسياً؛ لافتاً إلى أن الشرطة تستقبل عشرات البلاغات من أشخاص طبيعيين كل يوم”.
ورداً على حادثة الرياض وما جاء بعدها من حوادث، قال: “تُعَدّ مثل تلك الحوادث نادرة وفردية؛ بيْد أنه يجب التعامل معها بجدية”.
وأوضح أن البحث في الشوارع ليس من مسؤوليتنا أو مهامنا؛ بل مهمة الجهات الأمنية، بيد أنه علينا أن نتأكد من كون القائم بأي حادثة مريض نفسياً أم لا.
وأكد “الحبيب” أن هناك مراكز ودُوراً لاحتواء الحالات الموجودة في الشارع؛ ولكننا في حاجة ماسّة إلى زيادتها”؛ موضحاً أنه ليس كل حالة في الشارع “مريض نفسياً؛ فهناك مرضى في الشارع ولكنهم يحتاجون خدمات أخرى.
ظاهرة عالمية
وألقى مدير مستشفى الأمل للصحة النفسية في جدة الدكتور سهيل خان، مسؤولية وجود مرضى نفسياً في الشوارع على جهات متعددة؛ أهمها الصحة والشؤون الاجتماعية والجهات الحكومية؛ بَيْد أنه أوضح أنها ظاهرة عالمية موجودة في كل دول العالم.
وقال: “ليس من اختصاصي علاج المريض خارج المستشفى؛ فهناك جهات ناقلة عليها أن تنقل المريض النفسي إذا وُجِد خطورة منه، وأوضح أن أغلب مرضى الـ”home less” مرضى مصابون بالفصام والاضطراب العقلي الذهاني المزمن، ويصعب على مستشفيات الصحة احتواء مئات من مرضى الفصام، وتوفير مكان لهم؛ مشيراً إلى أن نسبة بسيطة هي مَن تمثل الخطر.
ورأى “خان” أنه يجب القيام بلجان مشتركة من عدة جهات؛ لتقصّي هذه الظاهرة إحصائياً ووضع الخطط اللازمة لحلها.
عجز الخدمات
وأرجع استشاري الطب النفسي الدكتور محمد عبدالله شاووش، تشرد المرضى نفسياً في الشوارع إلى عجز الخدمات أمام واقع الأمراض النفسية، وسوء البرامج، وعدم وجود مراكز تأهيل نفسي في المملكة ودُور لإيواء الأمراض النفسية، لافتاً إلى أنه يؤدي لزيادة معدلات الجريمة وتعاطي المخدرات، والاعتداءات المختلفة على المواطنين والممتلكات، وقال: “قد يتعدى ذلك إلى تحويل هؤلاء المرضى المتروكين إلى مشاريع فكرية منحرفة؛ كاستخدامهم وتوجيههم إلى الاتجاه المضاد للمجتمع والإرهاب والترويج”.
وانتقد الخدمات النفسية في المملكة قائلاً: “إنها متواضعة كماً ونوعاً؛ فبرغم تزايد أعداد المرضى نفسياً؛ إلا أن الخدمات النفسية لا تزال كما هي منذ أكثر من 25 عاماً”، وقال: “لم يتم التوسعة في البرامج النفسية، ولا السعة السريرية، ولا بالمستشفيات النفسية، ومستشفيات علاج الإدمان”؛ لافتاً إلى أن مستشفيات الصحة النفسية تفتقر إلى المتطلبات الأساسية لتقديم الخدمة، كما تفتقر إلى اهتمام وزارة الصحة والمجتمع، والمتخصصين في هذا المجال.
وأضاف “شاووش”، أن برامج الوقاية النفسية لا تزال مغيّبة تماماً في الاستراتيجيات الصحية؛ مما يجعل الوضع النفسي لا يحظى بالاهتمام والتعامل مع عوامل الخطورة المبكرة؛ لافتاً إلى أن هذا يؤدي إلى زيادة نسبة الأمراض النفسية.
ورداً على سؤال حول عزوف بعض أطباء المرض النفسي، واستقالاتهم في بعض المناطق، أجاب: “شعور الأطباء بعدم الاهتمام بالتخصص؛ هو ما يُشعرهم بالدونية وعدم القدرة على تحقيق مطالب المرضى والمجتمع؛ مشيراً إلى تميز الأطباء الوافدين في الميزات المالية”.
وطالب وزارة الصحة بتقييم الوضع بشكل علمي دقيق، والعمل على المحاور الصحية الثلاثة (الوقاية والعلاج والتأهيل)، وعمل استراتيجيات واضحة المعالم بناء على إحصائيات ومسح للأمراض النفسية، واعتماد ميزانية للتطوير من قِبَل المختصين داخل المملكة وخارجها.
وقال استشاري الطب النفسي: “لوكنت مكان الوزير؛ لوضعت الاهتمام بالصحة النفسية ضمن ملفات التغيير والتطوير”؛ مبيناً أن هناك مئات الآلاف من المرضى نفسياً، ومرضى الإدمان الذين يستحقون أن يعالَجوا بمهنية وإنسانية وكرامة، كما تحدّث عن برامج التدريب في التخصصات النفسية، التي تحتاج إلى مراجعة حقيقية، وخطط مستقبلية لتقديم خدمات عالية.
وتابع: “يجب إعادة النظر في مخرجات الجامعة في تخصصات علم النفس والاجتماع”؛ لافتاً إلى ضعفها وعدم تلبيتها احتياجات السوق، وقال: “يُعتبر خريجو هذه التخصصات؛ بعيدين كل البعد عن تقديم خدمات تُلَبّي حاجة المجتمع والمرضى”.
أشخاص عدوانيون
ولفت الكاتب “خالد السليمان” إلى أن هؤلاء المرضى خطر يمشي على قدمين، لم يكن ليمتلك حريته؛ متسائلاً: لماذا لا توجد برامج فاعلة لدى وزارة الصحة لعلاج المرضى نفسياً بدلاً من تركهم يهيمون على وجوههم في الطرقات؟ وماذا لو كانت مستشفى الأمل قادرة على احتجاز ومعالجة المدمنين الذين يتحولون تحت تأثير تعاطي المخدر أو ضغط عدم تعاطيه إلى أشخاص عدوانيين يهددون حياة القريب والبعيد؟
واسترجع “السليمان” حادثه مقتل العامل الهندي في أحد شوارع الرياض على يد مواطن ثلاثيني مدمن مخدرات ومضطرب نفسياً وصاحب سوابق، ولديه ملف لدى مستشفى الأمل، وقال: “إن العامل الهندي الذي كان يمارس عمله في بقالته؛ بكل براءة، أُزهقت روحه وسُلبت حياته على يد رجل غريب؛ لا يمتّ له بصلة تخيّله شيطاناً يجب القضاء عليه، وكان من الممكن أن يكون هذا الشيطان الخيالي أي واحد منا أو من فلذات أكبادنا يمشي في أمان الله؛ ليباغته رجل غريب بالذبح!”.
وتساءل الكاتب: “من المسؤول؟ وعلى أي رقبة ستُعَلّق روح هذا العامل البريء الذي جاء لطلب لقمة العيش، فأعاده مجنون مدمن مطلَق السراح إلى وطنه مكفناً؟!”.
وأعرب في ختام حديثه عن قلقه؛ متسائلاً: “كم من مجنون مضطرب أو مدمن مستشر يسير بيننا، ويمكن أن يُباغتنا على غفلة من مؤسساتنا المسؤولة عن علاج المدمنين وحجز المجانين ومراقبة سلوكيات المضطربين؟!”.
سلوكيات خاطئة
وأفاد أستاذ مشارك في علم الجريمة بكلية الملك فهد الأمنية الدكتور “صالح بن عبدالله الدبل” أن المشردين ليسوا نوعاً واحداً، وقال: “بعضهم يعاني مرضاً نفسياً، وآخرون مرضاً عقلياً، ومنهم من يفتقد المأوى”؛ لافتاً إلى أن عدداً منهم كانوا يعملون في أعمال محترمة، وبارزين في أنشطة مختلفة؛ بيْد أنهم تعرّضوا لظروف معينة وصدمات نفسية جعلتهم مشردين، وأوضح أن بعضهم ليس مكانُهم الشارع؛ بل المصحات النفسية والعقلية.
وبسؤاله عن أخطارهم على المجتمع أجاب: “هذه الفئة تُمثّل خطراً على الأمن، ويروّعون الناس، ويرتكبون سلوكيات خاطئة، ويتحرشون بالنساء في الأسواق”؛ محذراً في الوقت نفسه من استغلال البعض لهم، وقال: “قد تتعرض هذه الفئة للاستغلال الأخلاقي والجنسي، والمالي، وفي تهريب المخدرات؛ تستغلهم عصابات في التسول؛ بل ويتطور الأمر إلى الاستغلال الفكري؛ فينساقون خلف سلوكيات خاطئة، ويرتكبون الجرائم دون أن يشعروا؛ نظراً لحاجاتهم المادية”.
إيواء المشردين
ونبّه “الدبل” إلى أن وجود هذه الفئة طليقة بلا مأوى؛ يؤدي إلى ارتفاع معدل الجرائم في المجتمع، كما أنها قد تكون مصدراً لنشر الأمراض؛ لتنقلها بِحُرّية بين المستشفيات والشوارع؛ لافتاً إلى أن وجودها يؤثر على الذوق العام، ويقلل من قيمة المجتمع.
وحمل كل الجهات في المجتمع مسؤولية تجاهل هذه الفئة، وقال: “هناك قصور في بعض الأنظمة التي تقدم الخدمة لهؤلاء؛ فهذه الفئة المريضة لا يمكن تركها بهذه الطريقة”؛ مقترحاً إنشاء جمعيات خيرية متخصصة في إيواء جميع الفئات المشردة في المجتمع تساعدهم وتعالجهم، وتقوّم سلوكهم؛ حتى يستقيموا في حياتهم.
وقال: “يجب وجود كوادر نفسية واجتماعية مؤهله في أماكن الإيواء”؛ مؤكداً دور المسؤولية الاجتماعية للشركات من خلال دعمها لهذه الجمعيات، وبإشراف الشؤون الاجتماعية.
وحدد خطوات التعامل مع هذه الفئة، وقال: “يجب احتواؤهم في دُور إيواء، ثم تقسيم حالاتهم نفسياً واجتماعياً، وتوجيههم للجهات المعنية، التي تعجز أحياناً عن استيعاب الجميع”.
وطالب في ختام حديثه بالتوسع في إنشاء الدور الاجتماعية والعلاجية والنفسية؛ لاستيعاب هذه الفئة الوطنية من المجتمع التي تستحق الرعاية والتقويم.
صحيفة سبق
خ.ي