تحقيقات وتقارير
جمعتهم لحظة فارقة لكأنهم يضربون أصابع البيانو الموحية بـ”لم الشمل”.. هل بالضرورة أن يكون لقاء كبار المهدويين في كوبر بمثابة “قولة خير” لتماسك “الأمة”؟
بوابة سجن كوبر كانت تصدر صوتاً أشبه بالتصفيق وهي تحدق في هذا العرض الرومانسي الشيق، فما الذي جرى هنالك؟، وكيف ضمدت هذه المحنة ما اتسع من جراح الخلاف السياسي؟، وهل اختلاف الرأي لا يفسد لزيارة السجن قضية؟
الإمام والبلدوزر والشيخ والدكتور، جمعتهم لحظة فارقة أول أمس الخميس وهم يضربون أصابع البيانو الموحية (بلم الشمل)، ثمة من ينشد: “قد يجمع الله الشتيتين بعدما.. يظنان كل الظن أن لا تلاقيا”. ولكن هل بالضرورة أن ذلك اللقاء سيكون بمثابة (قولة خير) لعودة تماسك حزب الأمة؟ بالطبع تبدو الأجابة عصية على الجزم، لا سيما وأن المسارات تقاطعت والصفوف تمايزت منذ ما يقارب العشرة أعوام، في ذلك الوقت عندما انشق حزب الأمة وانتهي إلى شرائح أشبه بشرائح (البطيخ)، وربما يكون ما جرى هو محض مواساة.
الشاهد على حدة الخلاف أن الصراع أخذ بعدا حادا، عندما تجلت معركة شهيرة حول أيلولة (القبة) ومن هو الجدير بالإمامة؟ البعض يقارب ذلك الخلاف بذروة الأحداث التي حشدها الكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي في روايته ذائعة الصيت (الإخوة كارامازوف)، رواية دوستويفسكي تثير أزمة الصراع داخل البيت الكبير والعلاقة بين الدولة والكنيسة والمسؤوليات الأخلاقية المشتركة، فجأة يندلع صراع مرير بين الاب (كارامازوف) وابنه البكر (ديمتري) بسبب علاقة كليهما بامرأة تسمى (كراشونيكا) كان كل واحد يتمنى أن تكون خليلته لوحده، ويحتدم الصراع بينهما إلى درجة تهديد الأب لابنه بالقتل إذا اقترب من خليلته مرة أخرى، فيقرر الابن بعد عودته من مدينة أخرى كان غادرها أن يقوم بالدفاع عن حبه لهذه المرأة فيقترب من بيت أبيه، تشاء الأقدار أن يعلم بهذا الصراع والتهديد بينهما شخص آخر، لكن شخصا ما ثالثا يقوم بقتل الأب انتقاما من تصرفاته المشينة ودكتاتوريته..
أنظار الشرطة والعدالة توجه الاتهام للابن الأكبر لأن كل القرائن ضده، البغض يأخذ شكلا دمويا داخل البيت، ولكن في النهاية وبعد أحداث مثيرة يبرئ القاضي الابن البكر من تهمة القتل,
إذا أسقطنا بعض الأحداث في الرواية يمكن أن نحصل على صورة مشابهة لما كان يجري بين الأنصار، خليلة الوالد بمثابة السلطة، وأطراف النزاع في الرواية هنالك هم أبناء العمومة هنا، والكنيسة تشابه في رمزيتها قبة الأنصار، والحقيقة الضائعة هي الإمامة المتنازع عليها..
المدهش في الأمر أنه في اليوم الثاني لذلك اللقاء الموسوم بالتاريخي، كانت أحداث الجمعة الحزينة قد جمعت إبراهيم الأمين وسارة نقد الله في وقفة لذات السبب، يد سارة على يد نقد الله جدعت بعيد رغم الخلاف الكبير حول كرسي الأمانة، في سجن كوبر كانت أمنيات الصادق الهادي أن يثمر اللقاء الذي تناول قضايا مختلفة بعودة حزب الأمة، لا سيما وأن الإمام بدا سعيدا بتلك الزيارة واستقبلهم خير استقبال لكنه لم يقدم لهم الحلوى والعصائر بالطبع وإنما اكتفي بالبيت الشعري القديم الذي اشتهر بترديده “إِذَا احْتَرَبت يومًا فسالتْ دِمَاؤُهَا تذكرت القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُهَا”
(الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية) محض عبارة رسخت مفهوما طيبا وسط السياسيين، ولكن للمفارقة، من الحب ما قتل، والقتل هنا قد يجسد حالة نادرة الوجود بدت شاخصة أكثر عندما وقع الرئيس الأسبق جعفر نميري قرار إعدام بعض قادة انقلاب (19) يوليو (هاشم العطا) (وفاروق حمدنا الله) في الوقت الذي كانت دموعه في محاجرها تقاوم السقوط، نميري الذي حاصرته الذكريات أوجز ذلك المشهد المأساوي على طريقة (انتحار العشاق).. الساسة هنا في بلادي رحماء في ما بينهم وقساة عندما يحكمون أو هكذا يتراءى للبعض، ولكنها رحمة في مواجهة الوقائع تبدو محيرة إلى درجة الإرباك، ما يميز الساسة هو المشاعر الأخوية عندما يقتربون من إنسانيتهم، ويلامسون مواضع الضعف لدى رفاقهم، ثمة ما يستدعي تلك العبارة (عاطفة البشر كلما سيست اُبتذلت) هكذا وصفها أحد الكتاب الروائيين، ذاكرة الصحفيين (وكاميراتهم) لا تزال تحتشد بتلك الصورة النادرة، رؤساء الأحزاب الكبرى يجلسون على منصة واحدة في جوبا، (الصادق، الترابي، نقد) ويتبادلون (القفشات) والضحكات الملونة، وهم أنفسهم بالإضافة إلى السيد محمد عثمان الميرغني قد جمعتهم (زنزانة) واحدة في بداية انقلاب الإنقاذ، في تلك اللحظة كان شيخ حسن يصرف النمل حتى لا يعلق بثوب الميرغني، ورغم الخديعة والخلاف الأيديولجي فقد نشأت علاقة صداقة بين الراحل عمر نور الدائم وأحمد عبد الرحمن من داخل المعتقل، الرئيس الراحل نميري والراحل نقد بجانب الترابي كانت تجمع بينهم مودة قديمة مردها زمالتهما في مدرسة (حنتوب)، ومع ذلك جرى بينهما ما جرى، ولكن ربما الأنصار يمثلون وجهاً وضيئاً في الوفاء، ساق كل هؤلاء في مشوار واحد وليس بدافع الصدفة ليواسوا أخاهم الأكبر في مصيبته.
صحيفة اليوم التالي
أ.ع