تحقيقات وتقارير

الترابي .. هل هو مهندس الحوار ؟

[JUSTIFY]قرارات رئيس الجمهورية عمر حسن أحمد البشير في الرابع من رمضان العام 1999 فلقت المؤتمر الوطني الحاكم إلى نصفين، اشتهرا لاحقاً بجناح القصر وطرفه البشير والمنشية الذي يمثله قائد الحركة الإسلامية وعراب الإنقاذ دكتور حسن عبد الله الترابي، ورغم المحاولات الداخلية والخارجية لرأب الصدع بين الفريقين إلا انها باءت بالفشل الزريع، ليبتدئ مشوار العداء المر بين الفصيلين زهاء الثلاثة عشر عاماً، إلى أن كان انقلاب الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي على حكم الإخوان المسلمين برئاسة محمد مرسي في الثالث من يوليو الماضي، والذي غير مجريات موقفي القصر والمنشية، وقد عبر الترابي عن رفضه للانقلاب في مؤتمر صحفي جهير، بينما لاذ بالصمت المطبق عندما هبت احتجاجات سبتمبر الشعبية على إثر رفع الدعم عن الوقود، وقد قتل فيها زهاء الثمانين مواطناً وفقاً للإحصاءات الرسمية، بينما تشير إحصاءات المعارضة للمئات، ومالبث أن كان ديسمبر محط قرار ضخم اتخذه البشير بمغادرة القيادات العليا بحكومته والتي كانت لها أدوار فارقة في المفاصلة، وفي مقدمتهم نائبه الأول علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع وعوض أحمد الجاز، وراجت الأحاديث أن مغادرة الكبار كان ممهوراً بتوقيع المنشية، رغم أن الترابي في حوارات صحفية نفى أي صلة له بالأمر ألا أن تراتبية الأحداث تشير إلى نقيض ذلك، وعندما شارك الأخير في خطاب البشير للأمة السودانية في يناير، ضجت الساحة السياسية والإعلامية بالأسئلة، ومنها قول رئيس حزب المؤتمر السوداني إبراهيم أن حضور الترابي يحتاج لتفسير، ليجئ الرد سريعاً في أقل من شهر بإعلان الشعبي للقبول بالحوار مع الوطني دون شروط!

ويزع بالسلطان
أمسية السادس من أبريل الماضي شهدت قاعة الصداقة صافرة انطلاق حوار المؤتمر الوطني برئاسة الرئيس عمر البشير مع أحزاب المعارضة التي ارتضت الحوار، الذي دعا إليه في 27 يناير الفائت، موضوع المؤتمر وفقاً للبشير هو تقديم الاقتراحات بشأن الآلية التي ستدير الحوار، عدد الأحزاب المشاركة آنذاك كان 83 حزباً، لم تتطرق كلمة معظم المتحدثين من رؤساء الاحزاب أو ممثليهم عن موضوع اللقاء وهو الآلية، باستثناء أحزاب قليلة منها رئيس حزب الأمة الفدرالي عبد الله مسار الذي دعا لتكوين آلية من 14 عضواً مناصفة بين الطرفين بالإضافة للرئيس، وزاد عليها في اقتراحه رئيس حزب منبر السلام العادل الطيب مصطفى بأن تكون اللجنة عشرينية لتسع أكبر قدر من الجانبين، وعندما ألقى الترابي كلمته بدأ وكأنه طائر ضخم بسط جناحيه في فضاء المكان على نحو طغى على كل الحاضرين، فلم يبق من وجودهم إلا ما يدل على غيابهم!، ذلك الحضور الطاغي لم يكن مرده سلطة الفكرة أو الكارزيما فحسب بل كانت مخايل سلطة الفعل شاخصة بقوة، كان الترابي يقرأ من ورقة بيده يمر على النقاط الجوهرية فيها، وخامرني وقتها شعور قوي بان الشعبي ليس مجرد حزب تمت دعوته للحوار وأجاب الدعوة أسوة بمن فعل، وبدأ أن له يد طولى في قضية الحوار، وازدت ثقة في رأي ذاك عندما طالعت ورقة الترابي التي عرضتها الزميلة (أخبار اليوم)، واستحضرت تصريحه الذي أرسله من قطر ـ قبيل بدء الحوار ـ التي كان يزورها في تلك الأيام بأن أحزاب المعارضة ستشارك في الحوار وان بعضها سيكف، وبمطالعة الورقة وجدتها تطرقت للأزمات التي تعايشها البلاد ودعت لبسط الحريات، وأن يضم الحوار الحركات المسلحة وتوفير الضمانات اللازمة لها للمشاركة في الحوار بالداخل، وفيما يختص بالحوار كانت الورقة دقيقة جداً وتشتمل على تفاصيل وافية فيما يتعلق بآلية الحوار، أولاً حددت أطراف الحوار، ثانياً تطرقت لأجهزة الحوار واختصاصاتها، أما الأجهزة فهي: المؤتمر العام (الاجتماع العام)، الهيئة العليا للتنسيق، اللجان التي تتناول قضايا الحوار الفرعية، مجموعة التقارب وبيان الخيارات، الأمانة العامة، ثم تطرقت الورقة لتشكيل الأجهزة السابقة واختصاصاتها بالتفصيل، واختتمت الورقة ببند ملاحظات عامة ورد فيها أن الدعوة الأولى للاجتماع العام للحوار صدرت باسم رئيس الجمهورية، ويترأس الاجتماع الأول ويديره بسماحة، ثم يمكن أن يتعاقب على رئاسة الاجتماعات التالية للمؤتمر رؤوس القوى المشتركة..

نفوذ الشيخ
كثيرة هي مؤتمرات الشعبي الصحفية التي خصصها للحوار، حتى أنه أمينه للاتصال السياسي كمال عمر عقد مؤتمراً صحفياً ليبدي رأي الحزب حول الدعوات التي طالبت بوقف الحوار على خلفية اعتقال رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي بشأن تصريحاته عن قوات الدعم السريع وجهاز الأمن، وقال عمر إن هذه التداعيات ادعى للاستمرار في الحوار، بينما لم يعقد الوطني صاحب الدعوة للحوار مؤتمرًا يبين فيه للرأي العام ملابسات اعتقال المهدي وتأثيرها على الحوار، واكتفى بالتصريحات الصحفية فقط، ومن فرط اهتمام الشعبي بالحوار أعلن الحزب أن الترابي سيلتقي الأحزاب الرافضة للحوار (البعث والشيوعي السوداني) لاقناعها بالمشاركة فيه، وفي مؤتمرهم الصحفي الأربعاء الماضي قال مسؤول العلاقات الخارجية بالحزب د. بشير آدم رحمة أنهم ماضون في الحوار حتى ولو تخلت عنه كل الأحزاب طالما التزم به الوطني! وفي السياق نفسه يذكر أن الحديث عن قيادة الشعبي للحوار بات متداولاً على المستوى الإعلامي بوضوح حتى أن رئيس حزب حركة الإصلاح الإنقاذي صلاح الدين العتباني في حواره مع الزميلة (المستقلة) عندما سُئل عما إذا كان المؤتمر الشعبي يتولى (دركسون) القيادة بالبلاد قال إن الرئيس عمر البشير هو الذي يمسك الدركسون ولكن من الواضح أن للدكتور نفوذ في كثير من القرارات الأخيرة ويبدو أنه مؤثر في الاتصالات.

الغريمان على مائدة الحوار
وبينما الشعبي يزوال نشاطه المحموم حول الحوار، إذا بجهاز الأمن والمخابرت يدون بلاغاً في مواجهة المهدي ويعتقل لاحقاً على نحو اربك المشهد السياسي برمته، فالمهدي ومنذ حوالى العامين يدعو للحوار وخالف تحالف المعارضة الذي يدعو لإسقاط النظام بالقوة التي استبدلها بالجهاد المدني، وتطور خلافه مع التحالف لدرجة تجميد نشاط حزبه في أكتوبر الماضي، وعندما دشن البشير دعوته للحوار في يناير الفائت اعتبر المهدي أن الخطوة من كسب حزبهم، وانخرط في الحوار على كاد يعصف بوحدة حزبه، الذي انقسم لمدرستين الأولى بقيادته وتدعو للحوار والثانية بقيادة الأمين العام السابق إبراهيم الأمين، وبينما هذا هو الحال أعلن الشعبي في التاسع عشر من فبراير الفائت عن قبوله للمشاركة في الحوار دون شروط، وهو ما دفع المهدي للتصريح بأنه في حال سعي المؤتمرين للعودة لمربع ما قبل المفاصلة فان هذا سيفشل الحوار، مما يشير لانزعاج المهدي من خطوة الشعبي، وعندما اعتقل المهدي تكاثرت الروايات لتفسير سجن أقوى أنصار الحكومة، ومن أكثر التفسيرات قبولاً وفق للسياق العام للأحداث أن المهدي استشعر أن غريمه التقليدي الترابي قد هيمن على قضية الحوار رغم أنه عرابه، ويدعم ذلك التفسير الرواية التي أدلت بها بعض الدوائر القريبة من الشعبي تفيد أن المهدي أرسل للبشير رسولا يخبره أنهم لن يكونوا (كومبارس) الحوار، فإما أن يكونوا من منظريه وإما أن يخرجوا منه، وإذا فعلوا فإنهم سينسفوا الحوار، فرد البشير بأن الحوار سيمضي على النهج الذي هو عليه، ولهم أن يبقوا فيه أو يخرجوا، عرضت هذه الرواية على أحد قيادات الوطني فاستبعد صحتها بيد أنه أقر بسيطرة الترابي على الحوار بقوله الشيخ هو (مهندس) الحوار، ومما يعزز فرضية النزاع بين الامة والشعبي حول الحوار ما ورد بالزميلة (المجهر السياسي) في ثنايا البيان الذي أصدرته اللجنة العليا للامة القومي في 25 مايو عقب اجتماعها بدار الحزب برئاسة نائب الرئيس فضل الله برمة ناصر قوله في معرض رفضهم للحوار أن محاولات التدليس بتنصيب أفراد لايمثلون أجهزة الحزب كممثلين للحزب في أي من ما وصفها بـ (مهازل الحوار الجبهجي المسرحي لن تفيد)، وربما كان مناسباً أن نورد إفادة مسؤول دائرة الفئات بحزب حركة الإصلاح الآن أسامة توفيق لـ (الإنتباهة) أن المهدي كان عراب الحوار والتقارب مع الحكومة واليوم (ركب) الترابي في الحوار و(قلب الطابق) والثار بين المهدي والترابي قديم. واذكر هنا انه مما لفت انتباهي في اللقاء التشاوري ان كلمة المهدي سبقت كلمة الترابي ووقع في نفسي ان ذلك مراعاة لحساسية الاول تجاه الثاني.

نقاط القوة لدى الشعبي
أمين أمانة شعبة العلاقات السياسية بالشعبي د. أمين محمود عثمان علق على كون حزبه مهندس الحوار بقوله ان كان رأي الاخرين ان طرحنا يشتمل على مضامين مفتاحية لحل ازمات البلاد فالتقييم متروك لهم، واضاف في حديثه لـ (الانتباهة) ان الحوار مطروح للجميع وكل حزب يقدم افكاره، وتطرق لمكامن الاشكالات التي تعاني منها البلاد ومنها تعدد مراكز السلطة وان الاجهزة الامنية ترى نفسها فوق المساءلة (…….)، وقال ان مصدر قوتهم هو معرفتهم بازمات البلاد والتصور الذي يمكن حلها من خلاله.
ومن نقاط القوة التي تتوفر للشعبي وتمنحه رصيد اضافي من القوة هو تحركه على خط الجبهة الثورية التي تضم حركات دارفور والحركة الشعبية قطاع الشمال، واحدث تحركاته في هذا الجانب ما صرح به كمال عمر في مؤتمر صحفي (20) مايو ان حزبهم بصدد عقد اجتماع مع الحركات المسلحة في الخارج، وعلى الصعيد نفسه قال الامين اذا لم يتم الاتفاق مع الحركات المسلحة لانهاء الحرب فان ازمة البلاد ستكون قائمة، لذلك نحن نرى ان واجبنا ان ننظر في امر الحركات لنعرف ماهية الموجبات التي تجعلهم يتركوا الحرب، وشدد على انهم لايلعبون هذا الدور عبر اسناد من اي جهة سواء الحكومة او الاحزاب، فهم يفعلون ذلك عبر استراتيجيتهم للتعاون لحل ازمات البلاد، مشيراً الى انه بالامكان ان يتوصلوا لتفاهمات مع الحركات قبل الجلوس على طاولة الحوار، ومن ثم نتفق معهم مباشرة لينخرطوا في الحوار، وخلص الى انهم يلعبون دور الوسيط بين الحركات ومائدة الحوار، وعاد الامين ليشدد انهم تطوعوا لاداء هذا الدور ولم يسنده لهم الوطني، وبسؤاله عما اذا كان لهم نفوذا أكبر في ادارة الحوار اعترف الامين بقوله سندير الحوار بالطبع، ولايمكن ان ندخل الحوار (عشان الوطني يقنطرنا)، وعاد ليؤكد ان الاتفاق بينهم وبين الوطني في ان مشكلات البلاد لاتحل الا بالحوار، ونسعي للاتفاق على إجراءات الحوار، اولا تمهيد وتأهيل لبيئة الحوار بتعزيز الثقة بين المتحاورين وهذا لايحدث الا بتوفر الحريات والجلوس للحوار انداد فيما بيننا، واهم مافي الامر اننا ندخل في الحوار ونحن مستعدون للتعاون لحل الازمات عوضاً عن استراتيجية الخداع.

نقطة تحول
الهجمة التي يتعرض لها ما يسمى بالإسلام السياسي في دول الربيع العربي وإفريقية الوسطى شكلت نقطة تحول بالنسبة للترابي، تلك هي افادة مسؤول دائرة الفئات بحزب حركة الإصلاح الآن أسامة توفيق الذي اضاف في حديثه لـ (الانتباهة) انه ومن خلال جلسات خاصة مع الترابي ابان انقلاب يوليو الذي اطاح بالرئيس مرسي شعرت بان الواقع الراهن بالنسبة للترابي اصبح اكبر من عملية إسقاط النظام، فالعلمانيون صاروا في مواجهة الاسلام والمسلمين لذا أخذ الترابي في التنازل عن اشياء كثيرة في مقدمتها إسقاط النظام، ولم يعد امامه بديل غير اصلاح النظام، علاوة علي ذلك فان الترابي بخبرته ودهائه السياسي مقرونا بحالة الضعف التي تمر الحكومة شكلت عوامل مؤاتية له في قضية الحوار، وأجمل أسامة القول بأن الترابي وغازي مناط بهما اخراج السودان من وهدته، اما الحكومة فقد استجابت لذلك لأنها في العناية المكثفة ولابديل لها غير ذلك، فهي تعلم انها في اسواء حالتها، فلاتوجد مؤسسية وهي تشكو من العزلة الدولية والاقليمية كما ان حلايب صارت دائرة انتخابية في الانتخابات المصرية. إذن هل خشية الترابي على مصير البلاد اذا ما تفجر القتال على غرار سورية مثلاً هو الذي دفعه لمحاولة تدشين النسخة الثانية للإنقاذ السودان عبر الحوار، وربما الاعتذار بالعمل على كفكفة مأساة الوطن التي يحمل بعض من اوزارها، ولكي يتأتى له ذلك لا بد ان من يتولى ادارة الحوار ليتسني له تحقيق إرادته تلك؟.

رمضان 2013
وبالنظر في اوراق الشعبي نجد ان رمضان الذي شهد المفاصلة المرة 1999 هو نفسه كان شاهدا في نسخته للعام الفائت على مؤشرات الصلح، وذلك باجتماع الهيئة القيادية للحزب وتضم الامانة العامة بالمركز والامانات بالولايات والامناء السابقين كمراقبين قد قرر القبول بالحوار لحل ازمة البلاد سلمياً، واذا رفضت الحكومة هذا النهج فالشعبي سيلجأ لنهج الثورة الشعبية لإسقاط النظام وهذين البندين المتضادين شكلا التوصيات التي خرجت بها الهيئة القيادية آنذاك، وعندما أعلن الحزب قراره بالحوار بدأ للاخرين انه قرار فوقي ولاعلاقة له بالعضوية او امانات الولايات به، ولم يكن ذلك صحيح بالطبع، تلك هي افادة المصدر الذي آثر حجب هويته، وبتنازل الشعبي عن اسقاط النظام بالقوة تنازل الوطني بقبوله للحوار بشروط المعارضة من بسط للحريات وايقاف الحرب تشكيل حكومة قومية انتقالية وافساح المجال للوصول لتسوية شاملة ـ وليس اصلاح ـ عبر الحوار، أما اللقاءات بين الطرفين فقد كانت تتم على النحو التالي كان أمين الاتصال السياسي بالوطني مصطفى عثمان إسماعيل يلتقي الترابي مبعوث من حزبه، وكانت هناك لقاءات بين مصطفى ومساعد الرئيس إبراهيم غندور مع قيادات الشعبي كمال عمر عبد السلام و بشير آدم رحمة، وكل يأتي برسائل حزبه وناس الشعبي ويتناقشوا حولها، فيتفقوا على نقاط ويختلفوا في أخرى، واما التي يختلفوا بشأنها كانت ترفع للبشير والترابي للنظر فيها وفقاً لمصدر ثاني في حديث سابق، وأشار المصدر الأول ان قادة الشعبي في طرحهم يستصحبوا رؤى قوى المعارضة.

عليه يمكننا القول ان فترة الستة أشهر ما بين رمضان الفائت (يوليو) الى صفر (فبراير) كانت هي الفترة التي شهدت كواليس الإعداد للحوار بين الوطني والشعبي، وعندما اكتملت أركان الإعداد أعلن الشعبي عن قبوله للحوار في فبراير الماضي. تلك إذن بعض المواقف في فصول رواية إسلاميي الوطني والشعبي ما بين رمضان العام 1999 ورمضان 2013، وبين أيدينا رمضان العام 2014 فما الذي يحمله في طياته لإسلاميي المؤتمرين؟.

صحيفة الإنتباهة
ع.ِش[/JUSTIFY]