الطاهر ساتي

أوتاد الأرض


[JUSTIFY]
أوتاد الأرض

** لجليبيب رضي الله سيرة قصيرة في كتب التاريخ، ولاتفارق تلك السيرة خاطري..تسترجعها الذاكرة، لتستمع بها النفس..زحام المدائن، شوارع الحواري، أزقة الأحياء، أسواق العامة ومجالس البسطاء، هي الأمكنة التي ترسخ سيرة جليبيب في الذاكرة..قصدت مكتب أستاذنا حسن فكي علي، معلم التربية الإسلامية بالثانوية، ذات ظهيرة مقترحا : ( عندنا حصة فنون، وأستاذ عوض عيان، ما في طريقة تملا لينا الحصة ؟)..( جدا، يلا على بركة الله)، قالها، ثم نهض قاصداً (فصل علي)..كل تفاصيل الساعة في الذاكرة، بما فيها الهدوء الذي عم الفصل حين سألنا أستاذنا : (فيكم زول بيعرف جليبيب؟)، وقف زميلنا ياسر مجيباً : ( أيوه يا أستاذ، جليبيب ده صحابي )..و جلس ..!!

** في إحدى المعارك، قدم جيش المصطفى صلى الله عليه وسلم أرتلاً من الشهداء والجرحى..إنتهت المعركة، وتفقد الصحابة بعضهم بعضاً..بعد حصر الشهداء والجرحى، سألهم الحبيب المصطفى : ( هل تفقدون من أحد؟)، فقالوا ( نعم نفقد فلان وفلان وفلان و..)، وشرعوا يعددون أسماء الأعيان والاثرياء وذوي القربى ونفوذ المجتمع.. وحين إنتهوا، قال لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم بحزن (ولكنني أفقد جليبيبا)..فاحتار الصحابة وتساءلوا فيما بينهم ( من جليبيب هذا الذي أحزن فقده رسول الله ؟)..ثم هبوا بالبحث عنه في ميدان المعركة..وجدوه شهيدا وسط سبعة من قتلى المشركين.. قتلهم جميعا ثم إستشهد متأثرا بالجراح ونزيف الدم الطيب..!!

** عاتبوا أنفسهم، وقال الفاروق عمر رضي الله عنه قولته الشهيرة : ( كم من جليبيب مات في سبيل الله وما ضره ألا يعرفه عمر)..وقف المصطفى عليه السلام فوق جسده المثخن بوقع الرماح والسيوف، وقال دامعا : ( قتلتهم ثم قتلوك يا جليبيب، أنت مني وأنا منك، أنت مني وأنا منك )، فأدمعت مقل الرجال..ثم جلس صلى الله عليه وسلم بجانب الجسد الطاهر، وحمله ووضعه على ساعديه الشريفتين، وأمر صحابته بأن يحفروا له قبرا، فحفروا..وطوال ساعات الحفر لم يكن لجليبيب فراشا غير ساعد رسول الله..يا لهذا الشرف العظيم..وإشتهاءً لهذا الشرف، قال بعض الصحابه : ( ليتنا كنا جليبيب ) ..!!

** هكذا كان جليبيب..عاش مغمورا بحيث لم يفقده الصحابة عند الموت، ولكنه أرغمهم على أن يعاتبوا أنفسهم..كان فقييرا ومحروما من ملذات الدنيا.. ويسأله الحبيب المصطفى ذات يوم : ( ألا تتزوج يا جليبيب؟)، فيرد بحزن : ( ومن يزوجني يا رسول الله ؟)، أي من يرضى أن يزوجني إبنته؟.. فيطمئنه رسول الله : (أنا أزوجك يا رسول الله)، ويسأل حزينا ( إذا تجدني كاسدا يا رسول الله)، فيطمئنه المصطفى ( غير أنك عند الله لست بكاسد)، فيطمئن قلبه..ثم ينتهز المصطفى عليه السلام الفرص حتى يزوج جليبيا..!!

** ويأتي رجلٌ من الأنصار قد توفي زوج إبنته، ليعرضها على المصطفى ليتزوجها، فيقول له المصطفى ( نعم، ولكن لا أتزوجها أنا)، فيسأله الأنصاري : ( لمن يارسول الله؟)، فيقول المصطفى : ( أزوجها جليبيبا)، فيبهت الأنصاري ويستنكر ( لجليبيب يا رسول الله ؟)، ثم يتذكر مقام المصطفى عليه السلام ويستدرك : ( يا رسول الله إنتظر حتى أستأمر أمها ).. ويمضي إلى أمها ويقول لها ( أن رسول الله يخطب إليك ابنتك)، فقالت بفرح : ( نعم ونعمين برسول الله، ومن يرد النبي صلى الله عليه وسلم؟)، فيقول : ( لا يريدها لنفسه)، فتسأل ( لمن ؟)، فيجيب يريدها لجلبيب)، فصاحت الأم ( لجليبيب؟، لا، لا أزوجها جليبيب).. فيغتنم الأب هذا الرفض، ويتأهب لتبيلغ المصطفى، ولكن تصرخ الفتاة من خدرها : ( من خطبني إليكما؟)، فيرد الأب : (خطبك رسول الله لجليبيب )، فتقول : ( أتردان على رسول الله أمره؟، ادفعاني إلى رسول الله، فإنه لن يضيعني).. وتمت الزيجة، ويباركها المصطفى بدعاء ( أللهم صب عليهما الخير صباً، ولا تجعل عيشهما كداً) ..!!

** هكذا كانت حياة جليبيب..بسيطة وعفيفة، بيد أنها ذات مواقف عظيمة..سردها أستاذنا يومئذ، وفاضت عيون الزملاء بالدموع، فأستهوتني السيرة، ولاتزال..كل أغبش أغبر سمح المحيا وعفيف النفس، أرى فيه جليبيب..وكل مخلص متجرد لوطنه والناس والحياة، أرى فيه جليبيب..وما أعظم التاريخ حين يزيح الستار عن فضائل الذين يحترقون في الخفاء ليضئ الكون بكريم خصالهم..وفلتكن قصة جليبيب هذه مدخلا لسرد وقائع سودانية أبطالها من (غمار الناس)..نعم، هذه الأرض حبلى بوقائع تُجسد قيم الكفاح والنقاء و(البذل بتجرد ونكران ذات)، وما ضر أبطالها ألا يعرفهم أحد..( أوتاد الأرض)، الخميس وكل أيام العيد باذن الله..!!

[/JUSTIFY]

إليكم – السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]