احلام مستغانمي

لن ننسى . . لن نغفر


كما اليوم سقط سنة 1992 المناضل الرئيس محمد بوضياف مغتالا مباشرة أمام شاشاتنا على الهواء وهو يخطب . ذنب الرجل الذي رفع شعار ” الجزائر أولا ” أنه أخطأ في الأولويات ، في وطن أراده كبار اللصوص لهم أولا ولهم وحدهم . لهذا الرجل الشريف النظيف الذي كان من جيل أبي ورفاق نضاله ، أهديت روايتي “فوضى الحواس “. ومنها هذه المقاطع :
—————————————-
ثمانية وعشرون عامًا من الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية والسّبعين من عمره، ينزل. يمشي على سجّاد أحمر، مذهولاً من أمره.
أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا.. كان يلزمه إذن، ثمانية وعشرون عامًا ليقطعها؟!
رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما هو الحقّ، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيرًا، وبانت عظام وجهه وعظام أصابعه.
قبل قليل.
قبل التّاريخ بقليل. كان اسمه محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب. يدير بيديه اللّتين اخشوشنتا مصنعًا بسيطًا للآجُرّ. ويعيش بعيدًا عن كلّ عمل سياسيّ، سوى ذكريات ثورة تنكّرت له، وأخبار وطن حذف حكّامه اسمه حتّى من كتب التّاريخ المدرسيّة، كزعيم أشعل ذات نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى للثّورة التحريريّة.
اللّحظة لم يعد له اسم.
مذ خطا على تراب الوطن، أصبح اسمه هو «التّاريخ».
أليس التّاريخ «هو ما يمنع المستقبل من أن يكون أيّ شيء»؟
الآن.. لم يعد له من عمر.
لقد أصبح له أخيرًا عمر أحلامه، تلك التي جاءت متأخّرة بجيلين وأكثر.
الآن.. في هذا العمر، هو يتعلّم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمش عليه يومًا بحرّيّة ولا بأمان. هو ما طالب يومًا بالسّلطة، وإنّما رفض منذ البدء، أن يكون قد كافح ليحرّر وطنًا من الاستعمار، كي يسلّمه لدكتاتوريّة الحزب الواحد، لذا يوم اختفى في غياهب سجون وطنه ، لم يوجد من بين رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به!
كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة.
فمضى بذلك القدر الهائل من الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور.
تذكّروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عامًا، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر، وانسحبوا، تاركين لنا وطنًا مرهونًا لدى البنك الدوليّ – مع كثير من التمنّي – لعدّة أجيال فقط. فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من النّحافة.. والنزاهة.. ولم يجلس يومًا إلى طاولة الصّفقات المشبوهة للسّلطة.
كان لا بدّ من اسمه ليعيد الثّقة إلى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليه حكمًا بعد آخر، علي باب والأربعون حراميًّا.
جاؤوا به. قالوا له الكلمات التي لم تصمد أمامها شيخوخته «الجزائر في حاجة إليك.. أنت الرّجل الذي سينقذها».
فقام العجوز. غسل يديه من طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائمًا بأنّه لا يمكن أن تبني شيئًا بالكراهية. وكان له قدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن من نفوه ومضى نحو «وطنه».
فمنذ الأزل، لم يحدث أن نادته الجزائر ولم يستجب لندائها.
ها هوذا..
يرتدي بذلة لم يتوقّع أنّه سيرتديها لمناسبة كهذه.
يتعلّم المشي أمامنا. يتعلّم الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيّينا بخجل، كمن يعتذر عن يدٍ لم تحمل يومًا سوى السّلاح.. والآجرّ، ولم تكن مهيّأة لمثل هذا الدّور.
ها هوذا.. بوضياف.
يأتينا مشيًا على الأقدام، مشيًا على الأحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنيّة، وجيل لم يسمع باسمه قبل اليوم. ولكنّه يرى في قامته، تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافيّة.
ها هوذا..
ليست أقدامه التي كانت تبوس تراب الوطن مع كلّ خطوة، إنّما تراب الجزائر، هو الذي كان يحتفي بخطاه، ويقبّل حذاءه.
فلا تملك القلوب إلّا أن تهتف: أيّها التّاريخ توقّف.. لقد جاءنا رجل من رجالك. ( يتبع )