حسين خوجلي

مـــن حكايــــــات شعبــــان..!


< غادر السودان في منتصف الثمانينيات وقد وفقه الله فأنعم عليه بوظيفة زاهية في مجال تخصصه الهندسي.. وجمع مالاً وفيرًا، أقام به مشروعاً ناجحاً بالسودان أصبح حديث رفاق الطلب القديم وتبرع الجميع لاختيار عروسته الموعودة.. اكتشف أن الناس في السودان اصبحوا مهووسين ببنات العوائل وعندما أرخى أذنه وأدنى قلبه لحوارهم اكتشف أنهم يعنون بنات الذهب الأطنان والأطيان وتطاول البنيان. ضحك في سره سخرية وتمزّق ألف مرة دون أن يراه أحد.. عاد دون أن يخبر أحدًا لحارات أم درمان القديمة حيث الحيطان الخضراء والقلوب البيض واختار عروسته من بنات الطبقة الوسطى الطبقة التي تعلّقت بكدّها واجتهادها الخرافي حتى لا تسقط في براثن الفقر والعوز في سنوات انحسار الاقتصاد السوداني وديونه الماثلة الوهمية. ذهب الناس للمناسبة فوجدوا «الرملة البيضا» بدلاً عن الرخام المستورد وأكلوا على طريقة الصينية واستمعوا يوماً للفنان الذري ابراهيم عوض وهو يبتدر الحفل المهرجان بليالي لقانا ويعقبه في اليوم الثاني ود بربر الام درماني محمود علي الحاج وهو يصدح «ياخواني الجميع» لسيف الدسوقي وابن القطينة الراحل محمد احمد عوض. ويمتلئ ميدان الحفلة بالكباشن ويخرج ابناء البلد القدامى فيهم عطر كرري وعمق الخريجين ومعركة المدرسة الاهلية وجراح مارس وتشييع الإمام عبد الرحمن ووقوف الأزهري على فواتح الفقراء وأغنيات بنات حي عبد الله خليل حين اكتسح عبد الخالق احمد زين في أم درمان الجنوبية . جاء الجميع مباركين رجال فيهم سيماء ياسين عمر وعلي المك وبرعي احمد البشير ومحمد احمد عباس والتنقاري وابراهيم يوسف سلمان واكرت والمأمور الشريف احمد ابو القاسم وقدح الدم وعوض أحمد خليفة.. والمحينة وكرف وسيد عبد العزيز والطاهر ابراهيم وعباس رشوان وصالح سوار الدهب وبشرى ادريس والاستاذ احمد موسي وثريا أمبابي والسيدة رحمة بت عبد الله ود جاد الله والحاجة هدية بت ود حسن.. وجاء الصبيان والصبايا وصنعوا البشارة وبشروا فوق الحلوات الحقيقة والحلوات الخيال. وفي آخر الليل حمل العريس ست الحسان الى احد العواصم الشهيرة وعاد بها الى احد أحياء الخرطوم الراقية.. صحيح أن الكثير من أبناء وبنات الحي قد حزنوا لمفارقة الشابة المستنيرة المثقفة لحيها المتواضع ولكنهم اصطبروا في صمت لأن لسان حالهم كان يقول إن وجودها هنا سيعلم هذه الأحياء على الأقل فضيلة التواصل ويشيع في البيوت ذلك الوداد السوداني القديم ويصنع لغة جديدة وسط العيال السمر فيها أسمار النيل والدعاش والحقيبة والنفاج.. هي ليست مجرد عروسة انتقلت من مكان الى زمان مختلف وغنى لها مصطفى سيد أحمد «السمحة قالوا مرحلة».. لا هي ليست كذلك هي حالة ثقافية بكاملها يأخذ منها سكان العاصمة الجديد كل عمق ثقافة الوسط المشعة اللافتة تلك التي لم تستطع أية مؤسسة شعبية أن تحولها الى سلع تربوية لتمتص به هذا التنافر الذي نراه في الأطراف ويخيفنا يوماتي في زحف ميدان الأمم المتحدة جوار القبة الخضراء التي ذهبت.. قلت فلتذهب فهي ليست أكثر خلودًا من المذابح والحضارات (2) الحكومة الناجحة هي تلك التي تجعل الناس ينسونها ولكن الحكومات العربية دائماً في البال بالهزائم والفواتير والعسس. (3) قلت لأحد رجال التربية.. كان الآباء القدامى يظهرون الحلال ويخفون الحرام عند أطفالهم ولكن الحرام صار اليوم متاحاً بالألوان في كل القنوات والانترنت والسي دي والمجلات السرية. قال: ويحك أن نبشر بنظرية التربية الناقدة وهو ألا نخاف على أطفالنا من القبح بل نقنعهم بأنه قبح ونعلمهم الجمال بديلاً. وألا نخاف على أطفالنا من الشر بل نقنعهم بأنه شر ونعلمهم الخير بديلاً.. وألا نخاف على أطفالنا من الباطل بل نقنعهم بأنه باطل ونعلمهم الحق بديلاً.. أقنعتني فكرته غير أني اكتشفت أنه لم ينشرها ولكن الأطباق اعتلت كل القرى والدساكر والنجوع. (4) ذهب مع أبنائه وزوجته الحضرية الى قريتهم بالشمالية ورأوا بأعينهم القمر والأنجم والنهر والصحراء.. وكان حديثهم لكل زوار العيد بالعاصمة أنهم لم يتخيلوا أن السودان بمثل كل هذا الجمال.. أما والدهم فقد تحكّر في الصالون يحدّث ضيوفه عن طريق التحدي.. لم تختلط الأوراق أبدًا فكل واحد منهم كان يتحدث عما كان يفتقده.. الأب درس الثانوية بمروي وزوجته درست الثانوية بمدارس الاتحاد «اليونتي» بالخرطوم. (5) يكتب مجموعة منوعات كلما سنحت له الفرصة ولكنها لم تشذ يوماً عن الآتي قام الرائع فلان بعمل كذا.. وقدمت المتألقة فلانة برنامجاً فوق العادة. وصدح الكروان الخطير علان برائعــة المبدع فلتكان «الليلة ما جاء». وعاد الى أرض الوطن الأديب النحرير والنجم المشع إياس بن الياس. يكتب ويكتب جملة من الأوصاف الممنوعة غير المقطوعة حتى نفد صندوق ألفاظ الإطراء.. يا صديقي بعض الجمال في هذه الدنيا أن يكون هناك بعض الشتر وانصاف المبدعين حتى يجد الهجاء فرصته وحتى يجد الناس فسحة للتنفيس «ولا مش كده يا رائع». (6) < في مساء طليق سألتني : هل هناك نظرية اقتصادية في الأدب الشعبي؟ قلت : (بالكوم) يا ابنتي العزيزة ومنها رباعية العم (عكير الدامر): كافح في حياتك ولي البزاحمك راكب واتدور مع الأيام نجوم وكواكب امشي قرابي ومرة خليك راكب اصلو الدنيا طوفان والمعيشة مراكب < ثم أردفت (العزيزة) وفي الحكمة؟ فأسعفني قول الرجل : الأفكار بقت فوق الحسادة جريها واللي الله راحت وما في زول طاريها انطفت النصيحة وبدري طار طاريها أما شهادة الزور حاضرة لي البشريها <وحكاية الزواج الهنا: قال الاصمعي : رأيت بدوية من أحسن الناس وجهاً وخلقة ولها زوج قبيح فقلت لها: يا هذه أترضين أن تكوني تحت هذا؟ فقالت : يا هذا .. لعله أحسن فيما بينه وبين ربه ، فجعلني الله ثوابه ، وأسأت أنا فيما بيني وبين ربي، فجعله الله عذابي . أفلا أرضى بما رضي الله به لي؟