تحقيقات وتقارير

الاختناقات المرورية تطل بوجهها مع اطلالة الصيف!


احتفلت ولاية الخرطوم هذا الشهر بافتتاح جسر توتي وذلك في وقت بدأت فيه ملامح الاختناقات المرورية مع اطلالة الصيف ليبرز التكدّس من جديد. أمس الأول شهدت شوارع الجامعة والجمهورية والمك نمر وبعض طرق العاصمة الأخرى تكدساً غير مسبوق بسبب الاختناقات المرورية. يأتي التكدس هذه الأيام ووزارة التخطيط العمراني والمرافق العامة بولاية الخرطوم مشغولة أيضاً عبر الأمانة العامة للمخطط الهيكلي للعاصمة خلال العشرين عاماً القادمة بالاستماع لكافة قطاعات المجتمع بغية الوقوف على آرائها لاستصحابها عند تنفيذ المخطط الهيكلي للمدينة .
وإذا كانت الولاية قد تمكّنت من تشييد عدد من الجسور على النيل وعدد من الأنفاق فما زالت سمة المدينة البارزة هي الاختناق المروري، ووفقاً للمصادر الرسمية يبلغ متوسط كثافة السيارات على الكيلومتر الواحد في بعض طرق الخرطوم ذات الكثافة العالية «170» سيارة على الكيلومتر الواحد من الطرق ذات الكثافة العالية، والتي لا يتجاوز طولها «790» كيلومتراً من جملة طرق العاصمة البالغة (3) آلف كيلومتر، وهذا يعني أن الخرطوم ماضية لتكون إحدى أكثر المدن اختناقاً ما لم تتخذ سلطات الولاية التدابير الكفلية لانسياب هذه السيارات.
ولما كان الاقتصاد الوطني يشهد ارتفاعاً مضطرداً في معدلات النمو جعلته يصعد بالبلاد للمرتبة الخامسة في قائمة أكثر الاقتصاديات نمواً وسط دول العالم، مما يعني أن واردات البلاد من السيارات ظلت طيلة الأعوام الخمسة الماضية تتصاعد في عدد السيارات التي باتت تشكل عبئاً إضافياً على الطرق والجسور، مما يهدد بحتمية الاختناق المروري ما لم تقم سلطات الولاية بإنشاء المزيد من الطرق والجسور والأنفاق. في المساحة التالية تعمل (الصحافة) على التحقيق في هذا الأمر مستصحبة آراء ورؤى الخبراء والوقوف على استراتيجيات الجهات ذات الصلة في التخطيط العمراني والجهات ذات الصلة..
اعتمد التخطيط العمراني للعاصمة على ثلاث خطط عمرانية، وذلك منذ عام 1958م، شملت مخطط دوكسايدس في 1958 والذي أوصى بضرورة إنشاء عدد من الجسور على النيلين الأبيض والأزرق ونهر النيل الرئيسي، تم تنفيذ كبري شمبات وكبري القوات المسلحة، أما مخطط «مفت» الذي تم وضعه في 1976م فقد أوصى بإنشاء ستة جسور، إثنان منها على النيل الأزرق «سوبا، المنشية»، وجسران على النيل الأبيض، وآخران على النيل الرئيسي. أما المخطط الأخير تقدّم به دوكسايدس وعبد المنعم مصطفى عام 1990.
دكتور سيف الدين صادق حسن المحاضر بكلية الهندسة جامعة الخرطوم كان قد حدثني أن لكل من هذه الخطط رؤيتها المتكاملة وتوصياتها الخاصة بكيفية الربط الوثيق بين استخدامات الأرض ومنظومة النقل والحركة ومع مراعاة خصوصية العاصمة المكوّنة من ثلاث مدن كل واحدة منها قائمة بذاتها. تراكم القضية إن التعامل التخطيطي مع قضية الجسور في المدينة سواء العابرة منها أو الواصلة باتت قضية تراكمية بسبب عجز السلطات في السابق عن انفاذ التوصيات، مما دفع السلطات في ما بعد لإعادة صياغة كمية ونوعية للمتغيرات الحضرية والعوامل المؤثرة في قرار إنشاء وموضع وحجم أي جسر من الجسور. ومن سلبيات تجاهل المخططات السابقة وفقاً لرؤية الدكتور سيف الدين الإبقاء على المطار في موقعه الراهن رغم أن مخطط دوكسايدس الأول قد أوصى بضرورة نقله مع الثكنات العسكرية حتى تغدو منطقة المطار امتداداً لمركز المدينة، علماً أن وجود المطار والثكنات يشكل عائقاً رئيسياً في الربط الشبكي والوظيفي بين أجزاء المدينة، وانعكس الإبقاء على هذه المناطق في خنق الحركة وفصل للتكامل الوظيفي للمدينة. مهندس ياسر شيخ الدين اتفق في رؤيته مع دكتور سيف الدين، وقال إن عدم أخذ السلطات في الفترات السابقة بالرؤى الهندسية والـ(master plan) قد أدى لبروز العديد من الأخطاء، تسهم الآن في الاختناقات المرورية. فيما ذهب المهندس عبد الله الصادق إلى أن محدودية مداخل الخرطوم التي لا تتجاوز التسعة مداخل قد أسهمت في بروز أزمة حقيقية إضافة لوجود أزمة تقاطعات وأزمة مواقف، بيد أن المهندس زروق عبد القادر الذي عمل لفترة بإدارة التخطيط بوزارة الشؤون الهندسية ولاية الخرطوم يرى ان اختناقات المرور بالخرطوم سببها تمركز الخدمات بوسط المدينة، وذلك ما ذهب إليه المهندس عبدالله علي الحاج الذي يرى أن ازالة الاختناقات المرورية مرتبط بإعادة توزيع المؤسسات الخدمية داخل العاصمة، وهذه الرؤى لا تختلف مع استراتيجية دكتور سيف الدين صادق الذي يشير إلى أن تحرك وتكدس هذا الكم الضخم من السيارات بمنطقة لم تزد سعتها منذ «50» سنة قد أسهم في تفاقم المشكلة.
الخروج من الأزمة كما اتفق عليها الخبراء يتمثل في إعادة توزيع المراكز الخدمية حتى لا يضطر المواطن للتوجه لمركز المدينة لقضاء كل احتياجاته التسويقية والديوانية «الإجرائية» أي نقل الخدمات المتمركزة، بوسط المدينة مع ضرورة ولوج الدولة وتشجيعها للاستثمار في المواقف، إضافة لاستغلال السكة الحديد والنقل المائي مع ضرورة الاعتناء بهندسة المرور وتنظيمها فيما اتفق الجميع علي ضرورة المضي لإنشاء المزيد من الجسور والكباري العلوية، فيما طالب المهندس زروق بضرورة البحث عن بدائل حقيقية وجذرية تصعد بالخرطوم لمصاف المدن العالمية خاصة في ظل توفر الموارد المالية التي أتاحها تدفق النفط، وفي ظل وجود كفاءات بشرية. ويمضي زروق في حديثه لنا: إن المطلوب وضع خطة طويلة الأجل لإنهاء الاختناقات والتكدس المروري بدلاً عن الحلول محدودة الأجل، وأن تستصحب تلك الرؤى مستقبل المدينة بالواقع الاقتصادي الذي يبشّر بخير عميم خاصة في ظل وجود مساحات يمكنها مقابلة أي توسعات مرتقبة في مجال الطرق والأنفاق، وذلك من خلال إعادة توزيع المؤسسات الحكومية والوزارات في منطقة الخرطوم شرق خاصة أن إعادة توزيع وإنشاء هذه المؤسسات والتوجه للبناء الرأسي جعل الخرطوم سهلة التشكيل. من جانبه أكد المهندس ياسر شيخ والذي يبدو أكثر حماساً للجهود التي تبذلها الولاية في مجال الطرق والجسور، ويقول إن حكومة الولاية ورغم ما ورثته من مشاكل مزمنة في الطرق والجسور إلا انها أعطت هذا القطاع اهتماماً متعاظماً لإدراكها بأن الكباري هي المدخل لإزالة الاختناقات المرورية الراهنة داخل الخرطوم، وفي الطرق الدائرية المحيطة. غير أن مهندس ياسر الشيخ استدرك قائلاً «التقاطعات داخل المدن تحتاج لجسور طائرة، صحيح أنه تمت توسعة للشوارع، ولكن تقاطعات الطرق الرئيسية تحتاج لمعالجة إن كانت أنفاقاً أو جسوراً علوية، إن هذه المشاريع تحتاج لتمويل ضخم، فالولاية قامت بتشييد الكثير من الطرق والجسور وهي تعتمد على مواردها الذاتية بما في ذلك جسرا الانقاذ والمنشية. إن المتطلبات المالية لتشييد الجسور العلوية والأنفاق وغيره يحتاج لدعم قومي ضخم». فيما يبدو مستقبل المرور بالعاصمة أقل حدة لدى دكتور سيف الدين صادق الذي يشير إلى أن بدء تنفيذ نقل مطار الخرطوم لموقعه الجديد غربي أم درمان اضافة لنقل الثكنات العسكرية من موقعها الراهن مما يؤدي لتوسيع مركز المدينة وإعادة هيكلة مركز المدينة القديم، كما أن نقل المطار والثكنات مع عمل الجسور العابرة والواصلة يضمن تكامل وظائف المركز من المدن الثلاث لتبدو العاصمة كمدينة ثلاثية المركز، وبذلك يسهل تكامل المركز مع بقية الوظائف الحضرية. وطالب دكتور سيف بضرورة بقاء المركز التاريخي مع تجديده خاصة أن بقاء المركز مهم جداً في المحافظة على شخصية المدينة ذات الإغراءات التي يجب استغلالها حضرياً وسياحياً واقتصادياً بما لا يضير أداء المركز.
قول التخطيط
جلست للمهندس اسامة عبد السميع مدير إدارة الطرق والجسور بوزارة التخطيط العمراني للإلمام برؤية الوزارة حول اختناق الخرطوم، فقال إن أي عمل تقوم به الولاية في مجال الطرق والجسور يأتي ضمن منظومة مدروسة حتى ينتهي الأمر إلى اقامة وتشييد شبكة طرق متكاملة تسهم في إزالة أي اختناق مروري. ومركز الخرطوم ليس بمعزل عن ذلك، فمثلاً هنالك الطريق الدائري الداخلي الذي يربط مراكز المدن الثلاث ستتم معالجة التقاطعات الرئيسية كافة به مع توسعته وتأهيله، ويقع ضمن هذا المحور جسر جامعة السودان. وهناك الطريق الدائري الأوسط الذي يقع في أطراف المنطقة السكنية ويشمل ثلاثة جسور على النيل، وفرعية هي «الحلفايا، الدباسين، سوبا»، وقد بدأت سلطات الولاية تشييد كبري الدباسين وجزء من الطريق الدائري بمنطقة بحري، وبقية المشروع بأم درمان والخرطوم. فيما انتهت الدراسات بجسري سوبا والحلفايا، واكتملت عمليات التعاقد لتشييدهما. الغرض من إنشاء الطريق الدائري الخارجي تحويل مسار الشاحنات العابرة إلى اطراف المدينة ومنعها من دخول وسط المدينة، وتمضي استراتيجية الولاية في ربط أجزاء المركز من خلال التنسيق مع القوات المسلحة لفتح شارع البلدية عبر القيادة العامة وربطه بشارع الزرائب حتى جسر المنشية. وتجري الوزارة تخطيط شبكة طرق بمنطقة المطار وسيتم تنفيذها في أعقاب نقل مطار الخرطوم. تتضمّن رؤى واستراتيجية الوزارة لإزالة تكدّس السيارات والاحتقانات المرورية خطة قصيرة المدى تتمثّل في تعميم إشارات المرور وإعادة تأهيل الطرق بالمركز، كما تتضمّن العديد من الأنفاق والجسور العلوية خاصة الطريق الدائري الداخلي وهي قيد التصميم، وستتم المعالجة وفقاً لحجم المرور على كل تقاطع حسب إشارة الدراسات، كما توجد خطط متوسطة الأجل وطويلة الأجل تستصحب مآلات النمو الاقتصادي المتزايد.
من المحرر: من خلال إفادات الخبراء في تخطيط المدن، والعمارة، وهندسة الطرق والجسور، والوقوف على استراتيجية وزارة التخطيط العمراني فإن إعادة توظيف الأرض خاصة في ظل نقل المطار والثكنات العسكرية، وفي ظل مطالبة المؤسسات الحكومية التخلي عن «الحيشان» والتوجة للبناء الرأسي، فإن ذلك ينعكس إيجاباً من خلال توفر مساحات كافية لإنشاء وتشييد الجسور العابرة والواصلة، والأنفاق غير أن ارتفاع تكاليف إنشاء مثل هذه المشروعات يتطلّب دعماً ضخماً من الحكومة المركزية، وأن لا تترك الأمر لموارد الولاية المحدودة، كما أن إعادة توظيف الأرض يعني أن على الوزارات والمؤسسات الحكومية الاتجاه نحو البناء الرأسي، وذلك توجه لا تقبله المؤسسات الحكومية إلا بوقفة صلبة وصارمة للجهاز التنفيذي للحكومة المركزية خاصة أن هنالك عينات من المؤسسات «المستأسدة».
بلة علي عمر :الصحافة