حكمة رجل البوفيه العجوز
يحكى أن أحد أصدقائي بدول الاغتراب قص عليّ الحكاية التي ستلي هذا المدخل، وهي حكاية رغم بساطتها – أحسست أنها محملة بالكثير من المعاني والدلالات التي تعبر عن واقع الهجرة والعمالة في دول المهجر بصورة عامة، ولكافة الشعوب التي دفعتها ظروف بلدانها الداخلية إلى اختيار هذا الطريق ليكون أحد مساراتها (الأساسية) في الحياة لأجل تحسين (المعيشة)، ولتحقيق بعض الأحلام (الإنسانية) الصغيرة، التي بات إنجازها شبه مستحيل في تلك الأوطان الغارقة في مشاكل اقتصادية واجتماعية (باهظة الألم) ورطتها فيها أخطاء قادتها من الساسة والعسكريين الذين يتبادلون الحكم والسيطرة على (الأشياء)، والأوطان هذه واضح جدا أنها تمتد من أفريقيا إلى آسيا وبالعكس!
قال الراوي: الحكاية التي رواها هذا الصديق (المغترب) لا تخلو من طرافة محقونة بحكمة الشيخوخة المستحلبة من تجارب السنين، فالصديق يعمل في إحدى الشركات الكبرى التي تضم المئات من العمال والموظفين من مختلف دول العالم، وبينهم عدد كبير من الشابات الصغيرات اللائي يعملن في مهن متعددة خصصتها الشركة للنساء فقط، عامل البوفيه المشرف على مكتب صديقي كان بينه وبين الصديق الكثير من المناكفات والمناوشات التي لا تخلو من محبة متبادلة، وبما أن الكثير من العاملات كن من بلد العامل العجوز، فكان يعن للصديق مرات أن (يرفع) ضغط العجوز بكلمات مثل (إنهم يستولون على نسائكم) أو إن (بناتكم استسلمن لهذا الوضع المبني على الجسد.. وفقط)!
قال الراوي: في إحدى المرات وكان عامل البوفيه العجوز في حالة من الإعياء، ولم تكن به رغبة على ما يبدو لافتعال شجار هازل دفاعا عن (شرفه الوطني)، نظر إلى الصديق طويلا وقال له: (بابا ماما يمكن أكل ما في “العائلة في الوطن تعاني”، أنت جيت قانون ما في “جاء بطريقة غير قانونية وعرضة للخطر”، تحمل بس “الانحناء للعاصفة وتحمل ما يحدث”!). الصديق قال لي وهو يستعيد هذه الكلمات إنه تأمل بالفعل الوضعية المقلوبة التي يحيا فيها أغلب هؤلاء العمال والعاملات، مقلوبة بحيث أن كل أشيائهم برغم مرارة الهجرة و(الاغتراب) لا يجدونها إلا هناك في الجانب الآخر الأكثر إظلاما في حيز (الغربة) لعوامل الجهل والفقر و(الكآبة) التي تقود لارتكاب (موبقات) الهجرة المتمثلة في مخالفة قوانين البلد المهاجر إليها، مما يدفعهم (جبرا) إلى هذه الوضعية الاستسلامية الانهزامية!
ختم الراوي؛ قال: لم يكن يرمي إلى جرح عامل البوفيه العجوز، لكن الجرح آلمهما معاً.
استدرك الراوي؛ قال: “يوما ما سيغني أطفال العالم لحنا واحد”.
أساطير صغيرة – صحيفة اليوم التالي