“ملآذات آمنة”
# همست لي من بين ركام دموعها: لم أنشأ في كنف أبي! وظل وجوده في حياتي لا يتجاوز اسمي على الأوراق الثبوتية، ودوره ينحصر في بروتوكولات المناسبات الرسمية، لهذا لم أعرف اماماً ماهية الأبوه، لا طقوسها ولا تفاصيلها، رغم أنني لم أكن ذات صلة بقضية انفصاله عن أمي. ولكن الكثير من الرجال يلغون الحد الفاصل بين شراكة الحياة والأبوة، ويجعلون الأبناء طرفاً أصيلاً في خلافاتهم وتصفية حساباتهم وحتى حنقهم على الأمهات.
لهذا تجديني حتى الآن أختنق بعبراتي كلما رأيت طفلةً صغيرة تمسك بيد والدها في طريقها معه إلى (الدكان)، أو تلهو معه في الحديقة العامة، أو يحملها بحنان، فتنام على صدره!
# وأعترف أنني ظللت زمناً طويلاً أبحث عن أبي في كل الوجوه، فرغم استماتة أمي في إحاطتي بالحنان اللازم وتوفير حياة كريمة منعمة لأجلي، إلا أن مكاناً ما بأعماقي ظل شاغراً يبحث عن هيبة الرجل وسطوته، ولا سيما أنه لم يكن ثمة شقيق في حياتي يعينني على حاجتي لظل رجل يحنو عليّ ويحمينى.
وكبرت، وكبر عتابي على أبي، ولكني برغم ذلك حاولت أن أخلق معه علاقة ودودة أجتهد خلالها في نيل رضاه، ربما كان الأحرى بي أن أوغر صدري عليه من فرط إهماله وتنازله عن أبوتي وحرماني من حقي الشرعي والإنساني فيه.
ولم يكن أبي مستعداً للتعاطي مع تسامحي ورغبتي في التواصل معه فلم تفلح كل محاولاتي في إيقاظ ضميره وتفكيره في تعويضي عن أجمل السنوات التي ضاعت بدونه.
# كنت أحتاج فعلاً لـ(ملآذات آمنة)، ملاذ للحنان، وملاذ للهيبة، وملاذ للأمان، وملاذ للقوامة.
وتزوجت وفي خاطري تلك الملامح الرائعة التي رسمتها للأب المفروض والزوج المفترض، وما بينهما الكثير على حسب اعتقادي البسيط وطفولتي الضائعة ورومانسيتي المفرطة.
دخلت حياتي الزوجية بأجندة خاصة عاهدت فيها نفسي على (السترة)، والاهتمام برجل نما في قناعتي الداخلية المفرطة أنه لاشك سيكون (أبي) وسيوفر لي كل (الملآذات) التي أحتاجها.
غير أنه تبدى لي بعد ذلك أن كل ما حلمت به لم يتجاوز كونه أضغاثاً، وأن هذا الزوج لا يمكن أن يتحول أبداً إلى أب!!
بل إنني التي وجدت نفسي متورطة في تبنيه وأصبحت له أماً، وراح يمعن في استغلالي وإهانتي وجرح مشاعري والتقصير عن إلتزاماته تجاهي، وحق له أن يفعل ذلك وأكثر، فظهري الذي كشفه أبي منذ يوم ولادتي جعلني في نظره بلا (وليان)!! وهذا هو أكثر الملاذات التي أعرف قدرها، إذ لم يعد لي بين الناس والنساء (عز) ولا عزوة، فالأب والإخوان في حياة الفتاة ليسوا مجرد علاقات قدرية خلقت للتقويم والتوبيخ والرقابة. الأب على حسب ما سمعته – يوفر للابنة الدلال والرعاية والقدوة، يغدق عليها العطاء ويخشى عليها من نسمة الهواء، ينصرها صغيرة وكبيرة، ويبذل كل جهده في سبيل ألا تشعر يوماً ما بالحاجة أو الهوان!!
إندياح – صحيفة اليوم التالي