إلى معلمتي في عليائها
# باعدت بيننا السنوات، وأخذتنا تصاريف الحياة إلى حيث لم نكن نحتسب، تبدلت أحلامنا كثيراً وفاجأتنا أقدارنا بكل جديد، لم نعد نحن كما كنا وما عاد اللون الزهري يلون أمنياتنا، تبدلت الوجوه والسحنات والأولويات والاهتمامات، ومضت بنا الأعمار لتنسرب سنين الصبا الريان من بين أصابعنا، كل هذا، وصورتك القديمة لا تبارح خاطري، بكل جمالك الهادئ، وبشرتك البيضاء النقية، ووقارك الوديع، وقلبك الكبير، وسطوتك الناعمة، ومثاليتك النادرة، وابتسامتك الطيبة، وحزمك الودود.
لم تكني معلمتنا فحسب، ولا (مديرة) مدرسة النيل الأبيض المتوسطة للبنات حين ذاك فقط، ولكنك كنت القدوة والمثل الأعلى، ربطنا بك الحب والإعجاب أكثر من الخوف والارتباك، كنا نتبارى لكسب ثقتك ونيل رضاك، نجتهد في الدروس وننمي المواهب ونلتزم باللوائح، ونعاون فيما بيننا في سبيل أن تكون المحصلة الأخيرة (استحسانك).
# (إحسان عبدالمجيد)، اسمٌ من نور في سفر التربية والتعليم، وامرأة من رحيق ونقاء مرسومة على صفحات أيامنا بحيث أنها لن تنسي وإن غيبها الموت النقاد الذي يختار الجياد، أسعدتني الحياة بأن تتلمزت على يديها فلم تعلمني الدروس الأكاديمية فحسب، ولكنها علمتني الأمومة في أنبل صورها، وعرفتني على المعنى الحقيقي للحياة الزوجية بكل ما يجب أن تكون عليه من صداقة واحترام وتفانٍ، لذلك تجدني أتذكر حتى الآن كيف كنت أستمتع بمتابعتها وهي تلتقي شريك حياتها الرائع السيد (محمد إبراهيم أبوسن) كلما أتى ليصحبها عند نهاية الدوام المدرسي بكل بشاشة وتهمس له بالتحية من بين ابتسامتها اللطيفة التي تزيل رهق العمل والسعي وراء لقمة العيش.
وقد أسعدتني الحياة أكثر بأن منحتني صداقة ابنتها على مقاعد الدراسة، فكانت (منى) فتاةً مختلفة، لا تشبه الأخريات، كيف لا وهي خرجت من هذا البيت الذي عماده الحب والثقة، وأهم أولوياته التفوق والتهذيب والصراحة، فكانت نعم الصديقة التي تعينك على الخير وتجعلك تستحي من ارتكاب الصغائر في حضرة صداقته فلا يعد أمامك خيار سوى الاجتهاد والمثابرة والالتزام بكل ماهو حميد.
# وبهذا تدركون ما لهذه الأسرة العزيزة على من فضل، فمنهم اكتسبت ثقافتي الأولى عن الحياة الراقية، وهناك تعلمت الأناقة والعفة والولاء، وشاهدت الحياة الكريمة المترفة قبل أن يتحول الترف إلى صفة ذم، حيث أنهم من أوائل العائلات ذات الحسب والنسب والجاه الذي لم يغير شيئاً من تواضعهم وتقديرهم للآخرين.
فيا معلمتي، وصديقتي، وسيدتي، كيف تأتى لك أن ترحلي دون وداعى؟! وماله المرض اللعين أبى إلا أن يثقل عليك ويناوشك بآلامه المبرحة حتى عيل صبرك في غيابي؟ إني أشتاقك جداً، وظللت طويلاً أعلل النفس باللقاء، ذهبت بحثاً عنك في كل العناوين القديمة، ولكني وجدت تتنقلين لتؤدين دورك الرسالي وفق متغيرات السلم التعليمي في أماكن عدة، ورغم البعد والسنوات ظلت صورتك القديمة كما هي، تلوحين أمام عيني بمشيتك السريعة وخطاك الواثقة الثابتة، لا أذكر أنني رأيتك تتلكأين يوماً أو تناصبين أحدهم العداء، حتى نمطك في الإدارة كان مختلفاً يقوم على أساس روح الفريق ويتخذ الكياسة والحياد مبدأً لحل المشاكل.
# وكلما دارت بي عجلة الحياة ملأني الأمل بأنني حتماً سألتقيك، وحين توقف بي المسير عند محطة العمل الصحفي، كنت أراك بعين الوهم تقرأين مقالاتي، فأتمنى أن تنال رضاك وأن أكون مدعاة لفخرك، ولا سيما أنني تتلمذت على يديك وعرضت أمامك مواهبي الصغيرة عبر الإذاعة المدرسية والبرامج الثقافية وتنبأتِ لي بمستقبل إعلامي كبير أصبته متأخراً جداً مثلما أتاني نبأ رحيلك، وألجم مشاعري، وفجر الحسرة في قلبي المكلوم.
فيا حبيبتي، لك الرحمة والمغفرة بقدر عطائك وحروفك وبقايا (الطبشير) على أصابعك، لك الجنة مقاماً بإذن الله، ولك أن تكوني راضيةً مرضية، ولنا الصبر وحزن العزاء.
# وقد لا أعرف أبداً كيف ترك الزمن آثاره عليكِ ولا ماذا صنعت بكِ الأيام ولكني حتى بعد أن أتاني نبأ رحيلك استدعي صورتك الأنيقة بحجابك المحكم وألوان ثيابك المتناسقة وحتى حذائك الوقور، وأقف من جديد في باحة المدرسة لأؤدي مع رفيقاتي اللائي تفرقن ولا أدري أين هنْ الآن (نشيد العلم) أمام جلالك بكل حماس، ثم أمضي عبر طابور الصباح إلى فصلي الدراسي فأجلس على مقعدي بأدب ورح وأنتظر دخولك علينا بكل التوق واللهفة، فهل ستأتين؟!
إندياح – صحيفة اليوم التالي