السودان بين الجن الكلكي والمنجم الفلـكي!!
قصدت من تلك المقدمة أن أجد تفسيراً للتغيير الذي طرأ على سلوك السودانيين «موديل القرن الواحد وعشرين» وتنازلهم مرغمين عن بعض قيمهم السمحة التي عرفوا بها.. هل نتهم الاقتصاد بأنه هو السبب ؟؟ يبدو أنه بريء براءة الذئب من دم بن يعقوب..لأن الاقتصاد موجات عالمية تتدافع دوائرها تلقائياً وتنداح لتصنع ديمومة الفعل ورد الفعل، وهكذا تتحرك المصالح وتتشابك في إطار ما يعرف بقانون تبادل المنفعة، والشاطر هو من يكسب، والمتنطع المكابر هو من يخسر ويقبع في حفرة الكساد والركود والتكلس ليعيش متراجعاً على رصيف الشعارات حتى يتلاشى!!
ولكن بفحص عينة السودان تحت المجهر الحياتي وخاصة خلال الأربعة عقود الأخيرة، نجد أن كل أمراض السودان بسبب الساسة والسياسة التي ظللنا نتعاطاها ببزازة الجهوية والقبيلة، فتراجعت كثير من قيم التربية الوطنية السليمة مما أدى إلى تجريف منظومة القيم الأخلاقية والوطنية في التعاطي مع الشأن العام في ظل تدهور رهيب وخطير للعملية التربوية التعليمية التي باتت مؤسساتها أقرب إلى مزارع الدواجن التي تتسم بإنتاج لحوم مثلجة باردة وبلا طعم برائحة المركزات الكريهة.. وللأسف جل رجال وأمهات المستقبل جهلاء بامتياز رغم ثورة التعليم التي تستوجب الضرورة الوطنية تصحيح مسارها، وإلا فالطوفان قادم في ظل ظروف معاشة جعلت من معادلة السكان الوطنيين متاهة حسابية في دولة يكاد الأجانب فيها هم بوزن الكفة الأخرى من الميزان.. والمؤلم في خارطة ديموغرافيا السودان أن الأجانب لا يفضلون الريف وربما يمثلون ثلث سكان العاصمة حيث الخدمات متوفرة بصورة أحسن من الريف الذي يحاصره الفقر والجهل ونقص الغذاء والدواء!! وكل الاحتمالات واردة في ظل غفلة تسلل من خلالها بعض الأجانب إلى مواقع الخدمة في القوات النظامية!!
وكل ما نعانيه في السودان بسبب التساهل والعفوية في كل شيء، فالدولة مثلاً كريمة لدرجة التفريط مع المستثمر الأجنبي تحت هوس ما يعرف بجذب الاستثمارات الذي بدت الأجنبية منها منتشره في قوالب هامشية كالكافتيريات والمطاعم التي تنمرت على ثقافتنا الغذائية لدرجة جعلت من أطفالنا رصيد الغد أقرب إلى الغرباء على موروثاتنا الغذائية.. ثم هناك المستوصفات الطبية بحبات الحصى ولكنها فشلت بجدارة في التصدي لهجرة العلاج الخارجي الذي يعتبر واحداً من معاول هدم قيمة العملة الوطنية التي أخشى عليها من مصير بعض العملات التي تلاشت نهائياً!!
ورغم ثروات السودان الظاهرة والباطنة التي تغرد تحت الأرض ظل دخل الفرد الحقيقي «وليس النقدي» يتراجع باستمرار أمام تقدم مستمر لمنحنى خط الفقر حتى وصل معدل رقم مئوي مزدوج في بلد مؤهل للنهضة على خلفية موارد طبيعية «مياه عذبة وأرض شاسعة منبسطة ومعادن مطمورة وحيوان وغابات» وكلها ميزات نسبية تجعله في مصاف الدول النامية حقيقة وليست النائمة..
ويبدو أن حكاية السودان ترجع لواحد من سببين إما أننا صاح وكل باقي العالم على خطأ، وإما أن هذا البلد مسكون بجن كلكي ظل يسخر كل موارده لأعمال الفرقة والشتات، و بما أن الجن عالم آخر له طقوسه وطلاسمه يجب الاستعانة بمنجم فلكي لفك شفرة «العصلجة» التي جعلت منا أمة تستهلك من الشعارات والكلام ما يكفي لدرجة وفرت القناعات الكافية لدى كثير من المفكرين العالميين ليسوقوا لفكرة مفادها أن السودانيين ظاهرة كلامية أكثر منها أمة صاحبة رسالة وهدف وقضية يمكن أن تتبلور من خلال أفعال تترجم الأفكار والإرادة والرغبة والقدرة إلى طاقة فكرية وعملية لبناء مستقبل دولة السودان!
الحسين إسماعيل أبو جنة
صحيفة الإنتباهة
ت.أ