رأي ومقالات

اليوم العالمي للتسامح “Tolerance” إحتفاء بالتعايش السلمي

شدّني حديث الشيخ د. عصام أحمد البشير في صلاة الجمعة يوم 14 نوفمبر 2014م في ولاية الخرطوم وهو يحتفي بقيمة التسامح والتي يعبّر عنها الغرب بكلمة “Tolerance” والتي تعني أيضاً “تقبّل الآخر”. عدّد الشيخ د. عصام معاني السماحة من حيث المظهر والمخبر والمعني والسلوك وأورد العديد من الأمثلة والاشعار المؤيدة لرؤاه, ممّا يدل علي أن التسامح قيمة دينية وأخلاقية ينبغي أن يحتفي بها المسلم قبل غيره من أصحاب الديانات والمعتقدات الأخري. وقد أشار الشيخ د.عصام إلي إحتفاء العالم عبر منظمة الامم المتحدة “UN” ب”يوم التسامح العالمي” أو “اليوم العالمي للتسامح” في يوم 16 نوفمبر من كل عام.

وعندما نطّلع علي موقع ويكيبيديا, الموسوعة الحرة نقرأ الآتي: (في عام 1996 دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 تشرين الثاني/نوفمبر ، من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجّه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور (القرار 51/95، المؤرخ 12 كانون الأول/ ديسمبر). وجاء هذا الإجراء في أعقاب إعلان الجمعية العامة في عام 1993 بأن يكون عام 1995 سنة الأمم المتحدة للتسامح (القرار 48/126). وأعلنت هذه السنة بناء على مبادرة من المؤتمر العام لليونسكو في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، حيث اعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ المتعلّقة بالتسامح و خطة عمل متابعة سنة الأمم المتحدة للتسامح . توجز وثيقة نتائج مؤتمر القمة العالمي لعام 2005 (A/RES/60/1) ، التزام الدول الأعضاء والحكومات بالعمل على النهوض برفاه الإنسان وحريته وتقدّمه في كل مكان ، وتشجيع التسامح والإحترام والحوار والتعاون فيما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب).

وتأتي كذلك كلمة السيد بان كي- مون الأمين العام للامم المتحدة بهذه المناسبة منقولة ومترجمة بتصرّف من موقع الامم المتحدة الإلكتروني داعية عامّة الجمهور والحكومات والدُّول للعمل بنشاط في مكافحة الخوف والكراهية والتطرُّف عبر الحوار والتفاهُم والإحترام المتبادل. ومنادية للجميع للتقدُّم ومواجهة قوي التفرقة والعمل علي الإتحاد من أجل مستقبل الإنسانية المشترك.

الظُّلم والمظلوم والظَّالم والحياة الطبيعية:
الدعوة للإحتفاء باليوم العالمي للتسامح شملت كل الناس من أصحاب المعتقدات الدينية وغيرهم, وذلك بهدف تأمين حياة طبيعية آمنة من الخوف ومستدامة الإستقرار.

الظُّلم: الظُلم يتمدّد من أعلي مستوياته المتمثلة في الشرك بالله (والعياذة بالله) ويتدرج لمستوي النظرة الجارحة والخوض في أعراض الناس حال غيبتهم مروراً بقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحق والإستيلاء غير المشروع علي حقوق وممتلكات الآخرين وهضم حقوقهم. المظلوم يمكن أن النفس ويمكن ان يكون أحد أفراد الأسرة أو الوطن أو أي آخر. ومن الظلم الماحق أيضا عقوق الوالدين الذي لا تتأخر عقوبته من الله سبحانه وتعالي إلي يوم القيامة. ومن الظلم كذلك التفرقة بين العيال في محبة الوالدين وإظهار الوجه الحسن للأبناء بصورة متساوية (راجع قصة إخوة سيدنا يوسف الذي صارعوه ليخلو لهم وجه أبيهم). أمّا الظّالم دائماً فهو الإنسان “ظلوماً جهولاً”. وما يترتّب علي الظُّلم هو الترتيب لردّه بالدعاء إلي الله (دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب) أو بأخذ الحقوق المسلوبة عبر القضاء والتحكيم أو باليد وهنا تكمن مهدّدات ومفكّكات الحياة الطبيعية. قال الشاعر العربي عمرو إبن كلثومك ألا لا يجهلن أحدٌ علينا***فنجهل فوق جهل الجاهلينا.

المظلوم: عندما يخرج مظلوم فرداً كان أو جماعة أو شعباً أو دولة يتحري حقوقه ليستردها بيده حينها يتم إهدار وإهلاك الحياة الطبيعية عبر الأثمان الباهظة المتمثلة في الوقت والموارد التي يتم دفعها من الطرفين الظالم والمظلوم. إذا وقعت أسلحة الدَّمار الشامل والسلاح النووي الفتَّاك بيد مظلوم فإنّه ما من شك سيسعي لتدمير ظلامه وجلّاده بضغطة زر.

الظَّالم: الظّالمون سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو حكومات أو دولاً مهما سوّلت وتسوّل لهم أنفسهم وقدراتهم الآنيّة ظلم الآخرين فإنّهم يفتحون علي أنفسهم أبواب الرّد المتطرّف المتمرّد الطويل الأمد الذي لا يبقي ولا يذر ويقود بالنهاية لعرقلة الحياة الطبيعية وتفكيكها وتحويلها إلي جحيم. لقد حرّم الخالق سبحانه وتعالي الظُّلم علي نفسه وجعله محرَّماً بين خلقه من البشر وغير البشر. قال الشاعر:

وهل يأبق الإنسانُ من ملكِ ربِّه *** فيخرج من أرضٍ لهُ وسماءُ.

ولذلك مهما علي الظَّالم ولو كعلوِّ فرعون الذي قال يوماً ما “أنا ربُّكم الأعلي” فهو يرزح بروحه وطينته تحت حكم الله وسيذهب ريحه كما ذهب ريح فرعون.

الحياة الطبيعية:
من مظاهر الحياة الطبيعية الأمن والإستقرار وعدم الجوع (أطعمهم من جوع ٍ وامنهم من خوف).

التسامح وتقبُّل الآخر: يأتي التسامح وتقبّل الآخر كقيمة دينية وأخلاقية تقع في منطقة وسطي ما بين الظالم والمظلوم تسمح بإلغاء مادة الظًّلم وقبل ذلك تسوية موضوعها وإسئناف الحياة الطبيعية من جديد. وتأتي النصوص الدينية الدّاعمة لقيمة التسامح “خذ العفو وامر بالعرف”, “ومن عفي وأصلح فأجره علي الله”, “صل من قطعك واعط من حرمك وأعف من ظلمك”, “الكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس”, …إلخ. حتي أن إكتمال توبة التائب النصوح هي بالإقلاع عن الذنوب (في الحال) والندم علي فعلها وعدم العودة لفعلها من جديد بل ولابد من تحصيل عفو أصحاب الحقوق والمظلومين. وسيظل موقف سيدنا يوسف عليه السلام في التسامح مع إخوته من أبيه الذين ظلموه كثيراً بحسده علي محبة أبيه وإلقائه في غيّابة الجبِّ وتركه ليلتقطه بعض السيّارة ويبيعوه بثمن بخس في سوق النخاسة بمصر ليدخل في فتنة النساء ويدخل السجن ثم يخرج ليحكم ثم يكرّروا له المكر عندما وقعت التهمة المصطنعة حول سرعة صواع الملك بعد كل هذا سامحهم سيدنا يوسف عليه السلام وقال “لا تثريبَ عليكم اليومَ يغفرِ اللهُ لكُم”. نعم هذا نبي ولكنه المثال الواجب الإحتذاء. وهاهو رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلّم يعفو عن اليهودية التي دسّت له السم اللّحم واعترفت بذلك ولكنه حكم عليها بإقامة الحد عندما إعترفت بقتلها لرجل مسلم آخر. وقد الرسول صلي الله عليه وسلّم في غزوة “ذات الرقاع” عن ذلك الرجل الذي انفرد به وحمل سيفه وقال له من يعصمك ويحميك منّي يا محمد؟ فأجابه: الله, ثلاث مرت. ولمّا سقط السيف من الرجل وحمله الرسول صلي الله عليه وسلّم لم يقم بقتله أو يأمر بذلك من شدة حسن الخُلُق.

وفي أدبيات أصحاب مدرسة التسامح ولا أقول “الإنبطاحيين” التي يتم تداولها هذه الايام والتي تعني فيما يبدو المتنازلين عن حقوقهم لخوف أو ضعف في نفوسهم أو ربما سفه” جاء في أدبياتهم:

يخاطبني السفيهُ بكلِّ قبحٍ ***وأكره أن أكون له مجيبا.
يزيد سفاهةً وأزيدُ حلماً***كعودٍ زادهُ الإحراقُ طِيبا.

ويقول أهل الشعر العامّي الغنائي في السوداني “أغلطو إنتو يا أحباب ***نجيكم نحنا بالأعذار”.

التسامح ثقيل علي نفس المسامِح أول الأمر لأن فيه تنازل عن حقوق لأجل الله ومن أجل إستمرار الحياة الطبيعية بحيث لا تضيع هذه الحقوق المتنازل عنها ولكن تتحوّل إلي أجر عند الله وإلي نمو وإزدهار في الحياة الطبيعية. وسريعاً ما يتحوّل ثقل التسامح إلي سرور وسعادة روحية في نفس المسامح. وفي المقابل فإن التسامح حلم سماوي جميل تشتاق وتتعطش إليه روح الظالم خصوصاً ذلك الظالم الذي يقع في قبضة العدالة وتنسد عليه فجاج الحياة ولا يكاد يبصر لها بصيصاً من أمل إلا عن طريق المظلوم وأهله, وذلك ما لم تأخذه العزّة بالإثم كفرون “إنّه طغي”. والأجدر أن لا يكون التسامح وسيلة لتمكين الظالمين من التمادي في ظلمهم كنتيجة لظنّهم بعدم وجود الرّادع الديني أو القانوني وكان مآلات ونهايات كل مَظلَمَة في الحياة التسامح.

الحوار: يجب أن تفضي التسامح إلي قبول الحوار “Dialogue” كوسيلة مقبولة من الجميع لحل جميع الخلافات والمشكلات التي تعترض طريق الحياة المشتركة بين عامّة الناس والشعوب والحكومات والدول. إذا الإختلاف سنة من سنن الحياة فإن كثيراً من الصراعات تنشأ بسبب إثارة الفتن وسوء التفاهم بين المتصارعين ودخول بعض المتبرّعين بإضرام النيران علي الخط من غير تبيُّن ولذلك عبر وسيلة التفاهم تتم إزالة الكثير من أسباب التوتر الرئيسية وبالتالي إحتواء المواقف وسحبها لمربع الحل والتسوية. ولذلك فإن الحوار بين الإنسان ونفسه وما بين الإنسان والآخر وما بين المكونات السياسية والإجتماعية والثقافية وما بين الحضارات وغيرها أمر مطلوب الحدوث مهما تجافت عنه بعض الأطراف. والحوار بحدّ ذاته حرب فكرية كبري ولا بديل له إلا الحرب المادية المدمّرة.
مفهوم “تقبّل الآخر” وهو المعني المباشر لكلمة “Tolerance” لا يعني فقط تبادل العفو وتجاوز المرارات والضغائن ولكنّه يعني شيئين إيجابين يقعان في جانب الوقاية وليس جانب العلاج بالنسبة للمظلوم والظالم. فهو دعوة للمظلوم أن يترك مساحة للظالم يخطيء فيها ويتحمّل منه ذلك برحابة صدر. وفي هذا المعني تجاوز بعض أهل الإسلام عن خوض الخائضين في عروضهم بسلامة الصدر وكظم الغيظ والقدرة علي عفو الناس. يقول الشاعر العربي: إذا كنت في كل الامور معاتباً *** صديقك لن تلق الذي لا تعاتبه. ويدعو مفهوم “تقبُّل الآخر” الظَّالمين ليسمحوا للآخرين من زمرة المظلومين بأن يعبّروا عن أشيائهم علي التساوي. يمكن أن تكون هذه الأشياء هي الثقافات والعادات والتقاليد والموروثات الخاصة بأقليّة معينة أو جماعة (إثنية أو دينية او سياسية أو خلاف ذلك) تعاني من حالة لا تمكّنهم من الإستمتاع بحقوقهم في الحياة أو ممارستها بصورة طبيعية مثل اصحاب الحاجات أو الإحتياجات الخاصة.

خاتمة: كافة المفاهيم المرتبطة بخُلَّة التسامح وتقبًّل الآخر تقود بالنهاية لإيقاف أوبئة الخوف والكراهية والتفرقة وتؤدي لإستئناف الأجواء الصحية المليئة بالأمن والإستقرار. وفي عيد الأضحية عند المسلمين أيام وليس يوم واحد للإحتفاء والإهتمام بقيمة العفو نطقاً لفظياً به ومشاعر وجدانية تنضح به. وتسمح كل هذه المفاهيم بعودة وإستمرارية الحياة الطبيعية في ظل الأمن والسلم المجتمعي المستدام. ولذلك تستحق أن يحتفي بها العالم بأسره يوم 16 نوفمبر من كل عام. والشكر لمنظمة اليونسكو لإبتدارها هذه المناسبة وسنّها قبل أن تأخذ بها الأمم المتحدة مشكورة وتحتفل بها كمناسبة دولية ذات أهمية كُبري للأمن والإستقرار الدوليين.

المهندس إبراهيم عيسي البيقاوي