تحقيقات وتقارير

« سري للغاية » هل خططت «تل أبيب» لانقلاب نوفمبر 1958م في الخرطوم؟

[JUSTIFY]هل أنشأت إسرائيل علاقات مع زعامات وقيادات تأريخية سودانية، كيف ومتى ولماذا أنشأت تلك العلاقة، وهل نجحت في ذلك، ما هي الملابسات التي تمت في إطارها.. ولماذا تعمد مهندسوها الإبقاء على تفاصيلها في الدرج الأسفل وقبعت في الظلام رغم مرور عشرات السنين على حدوثها؟
يقيني أن ما تم الإفراج عنه من وثائق تخص هذا الملف يمثل نصف الحقيقة فقط، وربما ضاع نصفها الآخر مع من قضوا نحبهم من شركاء هذا الملف. لوضع النقاط على الحروف ربما تطلب ذلك الرجوع إلى الوثائق والمصادر الموثوقة التي أفرج عن العديد منها بعد مرور أكثر من نصف قرن على أحداثها، ومن بينها بالطبع ما صدر عن دار الوثائق البريطانية أو كشف عنه الإرشيف الإسرائيلي.

قبل الخوض في بعض تفاصيل الملف، ربما أطلت لزاماً علينا هنا بعض الأسئلة من بينها: هل تدخلت إسرائيل فعلاً في التخطيط لاستلام الجيش للسلطة في نوفمبر من العام1958م، وهل أوعزت بذلك لعبد الله خليل، وما كانت أهدافها من وراء ذلك؟ كان ذلك التدخل في إطار اتفاق أثنيا القاضي بقطع الطريق أمام أطماع عبد الناصر. ربما بدت بعض التفاصيل هنا مهمة للغاية.. فقد كانت فرحة إيسار هائير رئيس جهاز الموساد في الفترة من 1952 إلى 1963 كبيرة للغاية، نجح الرجل في إقحام السودان ضمن مخطط تل أبيب الذي عرف «بسياسة الضواحي» أو«الدائرة الخارجية المحيطة»، وهي سياسة اتبعها «روبن شيلواح» مهندس السياسة الخارجية ومن الآباء المؤسسين للاستخبارات في إسرائيل في ذلك الوقت، وكانت تلك السياسة تعني التحرك في محيط إسرائيل القريب والبعيد. وربما أدركنا ماهية تلك السياسة حال علمنا أن شيلواح يعتبر من الصهاينة الناشطين الذين أوكلت إليهم مهام سرية تجسسية غاية في الأهمية شملت دولاً عربية، إضافة إلى أن الرجل أحد الذين أوكلت إليهم المنظمة العسكرية المركزية «الهاغاناة» منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي مهمة إقامة «دائرة مخابراتية محترفة بغرض حماية المصالح البعيدة المدى لليهود البتشوف».
تقرير غاية في الخطورة، بثته القناة الأولى الإسرائيلية ربما أماط اللثام المضروب على الفترة التي سبقت انقلاب عبود وملابساتها إضافة إلى حديث نشره «حنا باروان» أحد كبار موظفي وزارة الخارجية الإسرائيلية إذ فجر العديد من الحقائق التي كانت غائبة تماماً، حول السودان خلال الخمسينيات.

وحسب عمليات الموساد السرية واستناداً إلى الكاتب الباحث جمال الشريف، يروى «باراون» بعض التفاصيل حول بعثته السرية في القرن الإفريقي خلال الأعوام«1958 الى 1960» وحينها كان الرجل ممثلاً للموساد في إثيوبيا وتوسع في الحديث عن أحداث تلك الفترة التي كانت ذروتها خلال العام 1958 عندما تسلم الجيش السلطة بعد انقلاب عسكري، ألزم الحدث باراون مكان إقامته في اديس ابابا وقال «كنت قلق على رجال الموساد في محطة الخرطوم». حديث «باراون» حول قلقه على محطة الموساد تزامن مع انقلاب عبود في 17 نوفمبر 1958م ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن محطة الموساد كانت موجودة في ذلك الوقت، وهذا يشير ايضاً الى أن المحطة تمخضت بالفعل عن اجتماعات فندق أثنا وأن لم يشر الرجل إليها صراحة . ويرجح ان تكون قد أسست منذ العام 1954 بهدف إيقاف إطماع عبد الناصر في السودان. وأكد التقرير أن شيلواح الذي أصبح مستشارا بوزارة الخارجية الأمريكية زار اثيوبيا في ذات الأسبوع الذي زار فيه عبد الله خليل أديس! واثناء انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان كل من باراون وشيلواح يصغيان إلى التقارير حول إزالة نظام عبد الله خليل.

ويقول التقرير الذي أشار الكاتب جمال الشريف الى انه ربما نشر نصف الحقيقة أن الرجلين كانا قلقين على رجل الموساد في محطة الخرطوم. وأبدى الشريف ملاحظة أن بارا أضفى بعض الغموض على تقريره ذاك وأنه لم يقل كل الحقيقة حول زيارة رجال الموساد الى إثيوبيا في نفس أسبوع الانقلاب، وهنا تبرز حقيقة أن مدير الموساد الأول ومستشار وزارة الخارجية الإسرائيلية شيلواح جاء الى إثيوبيا في نفس توقيت زيارة عبد الله خليل. وأشار الشريف الى أن هناك مبررات عديدة تدفعه إلى ترجيح افتراض مقابلة خليل القنصل الإسرائيلي روبن شيلواح في إثيوبيا، وأول تلك المبررات هو عدم صحة ما قاله القنصل الإسرائيلي نفسه أن سبب الزيارة هو الوقوف على تطورات الانقلاب في السودان ومتابعة مصير محطة الموساد في الخرطوم، والسبب هو أن الانقلاب لم ينفذه الجيش ضد عبد الله خليل، وإنما قام به عبد الله خليل وخطط له منذ فترات طويلة، وهنا تشير الوثائق الى أن الخطة التي نفذ بها النقلاب وضعت منذ العام 1956م وخضعت إلى التحديث عدة مرات إلى أن تم تنفيذها في 17 نوفمبر 1958م، عندما استولى الجيش بقيادة الفريق عبود على السلطة إلا أن ما أثار الدهشة حينها حقاً أن مهندس الانقلاب هو رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل. وهنا يقول الكاتب جمال الشريف، عندما وقع انقلاب 17 نوفمبر اتضح فيما بعد أنه تسليم طوعي للسلطة من قبل رئيس الحكومة عبد الله خليل، وهنا اتجهت التساؤلات حول أسباب ودوافع الانقلاب إلى خليل نفسه، وليست حكومة الفريق عبود. وهنا نبه الشريف إلى أنه لا يجب البحث عن أسباب الانقلاب في البيان الذي أدلى به الرئيس عبود بعد تسلم الحكم ولا إلى المؤتمرات والتصريحات الصحفية التي عقبت الانقلاب، إنما يجب الإجابة عن ذلك من خلال مدبر الانقلاب خليل ومن الظروف السياسية الداخلية والخارجية التي أحاطت به. وحسب الشريف، فقد لخص خليل في حوار أجراه معه الصحفي عبد الرحمن مختار مؤسس ورئيس تحرير جريدة الصحافة قبل أسبوعين من انقلاب 17 نوفمبر أن أسباب الانقلاب الجوهرية من وجهة نظره، عبد الله خليل باعتباره من خطط له هي الاضطرابات الداخلية في السودان التي قد تتيح لعبد الناصر استلام السلطة في البلاد. إذن كان تدبير خليل للانقلاب لقطع الطريق أمام أطماع عبد الناصر في السودان!

زيارة غامضة
وبالعودة إلى وجود رجال الموساد ومستشار الخارجية الإسرائيلية في إثيوبيا تزامناً مع زيارة عبد الله خليل إلى أديس، وبالرجوع إلى خلفية التعاون الاستخباري الذي ضم في ذلك الوقت مخابرات إثيوبيا والسودان وإسرائيل، حسب ما تمخض عنه لقاء عبد الله خليل وغولدا مائير في لندن، ذلك المشروع الذي أطلق عليه المثلث الجنوبي، فأن الصورة ربما أصبحت أكثر وضوحاً حول تلك الزيارة التي سبقت الانقلاب بأسابيع. وهنا يروي الصحفي عبد الرحمن مختار الذي رافق الرئيس خليل إلى إثيوبيا جزءاً من تفاصيل تلك الرحلة، ويقول«إنه في صباح 9 أكتوبر أقلعت بنا الطائرة المقلة للرئيس عبد الله خليل من مطار الخرطوم في طريقها إلى أديس ولم يرافق عبد الله خليل في تلك الرحلة أي وفد رسمي حيث أكد أنها خاصة وشخصية، ولم يكن معه في الطائرة سوى السيد ملس عندوم سفير إثيوبيا في الخرطوم وشخصي وخادمه الخاص.. ويقول مختار «عندما استغرق الرئيس في النوم بدأ «يدردش» مع السفير الإثيوبي، فقال له السفير الإثيوبي: «عمك عبد الله الدور دا بيعملها فيكم، لكن اعتقد أن الإمبراطور سوف يتمكن من إيقافه أو على الأقل أرجو ذلك». فقلت له «والحديث لعبد الرحمن مختار»: إيه حكاية الرحلة الخاصة التي أحدثت ضجة في الخرطوم وما هو أصلها؟ فقال له السفير إنها دعوة عاجلة وشخصية من الإمبراطور لعبد الله للحضور فوراًَ. ولاحقاً أكد السفير نفسة أن الزيارة كانت لمناقشة أمر الانقلاب!

واستناد إلى «الصراع السياسي على السودان» وردت إشارات في الوثائق البريطانية حول انقلاب 17 نوفمبر 1958، ووردت كذلك بعض المعلومات في الإعلام المصري عن أهداف زيارة خليل إلى إثيوبيا. وبعد نحو «39» عاماً من ذلك التأريخ، أي في العام 1997م، وردت معلومت أخرى حول اتصالات إسرائيلية جرت في أديس في ذلك التوقيت حول الانقلاب. وظهرت معلومات أخرى وهو ما نشرته صحيفة «الدستور» الأردنية نقلاً عن صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية حول انقلاب نوفمبر 1958، ويشير التقرير إلى زيارة شيلواح السرية إلى إثيوبيا، ويشار إلى أن التقرير ألقى أضواء جديدة في إحدى المسائل المهمة والغامضة في تأريخ السياسة الخارجية، ونشاطات إسرائيل في السودان في تلك الفترة.

تقرير: إنعام عامر
صحيفة الإنتباهة
ت.أ[/JUSTIFY]