رأي ومقالات

الطيب مصطفى: عرمان والطفولة السياسية!

كنتُ قد كتبت خلال المقالين الأخيرين في اليومين السابقين عن شخصية عرمان الخلافية المُدِّمرة منذ شبابه الباكر، وعن طفولته السياسية مستعرضاً بعضاً من تناقضاته حين تحدَّث عن ضرورة الحكم الذاتي لمنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بسبب خصوصيتهما الثقافية والوجود المسيحي فيهما، بالرغم من دعوته للوحدة مع الجنوب المختلِف بخصوصيته عن الشمال في كل شيء، ثم حديثه عن استحقاق الجزيرة ودارفور وشرق السُّودان للحكم الذاتي بدون أن يعلل دواعي ذلك الاستحقاق!

هل تذكرون قرائي الكرام تعليق بروف غندور الساخر الذي قال فيه إن عرمان تحدث عن كل شيء ما عدا المنطقتين؟!

العجب العُجاب أن يسكت عرمان خلال التفاوض عن المنطقتين اللتين ما انعقدت المفاوضات إلا من أجل مناقشة وضعيتهما بموجب القرار الأممي 2046 ثم يتحدث في نهاية جلسات التفاوض هارفاً بتلك القنبلة التي ألقاها بدون أن يُلقي لها بالاً أو يتحسب لآثارها الكارثية على مصداقيته وعلى اتزان خطابه السياسي، أو على تداعياتها على المشهد السياسي، بما في ذلك حلفاؤه السياسيون أو خصومه، أو حتى داخل قطاعه الذي اتضح أنه يفتقر إلى المؤسسية التي كان ينبغي أن تُخضعه لسلطانها قبل أن يجرؤ على الجهر بذلك الموقف السياسي الجديد على الساحة السياسية.

إنه تناقض عجيب يفضح ضحالة الرجل في مضمار السياسة التي يُجيد فيها دور المهرِّج الذي لا يصدر عن أدنى التزامٍ أخلاقي الأمر الذي جعلني من قديم أطلق عليه لفظ “الرويبضة”، فإذا كان عرمان يرفض أن يقتصر التفاوض على المنطقتين اللتين اتخذهما ودماء وجماجم أبنائهما سلَّماً يصعد به إلى مشروعه القديم المسمَّى بالسُّودان الجديد، بينما يقيم أبناؤه في الفنادق الفخمة، كما فعل زعيمه قرنق الذي استخدم دماء أبناء النوبة لخدمة قضية الجنوب، كما سخَّر التجمع الوطني الديمقراطي جسراً يمنحه الشرعية القومية.. فإن انتقال عرمان المفاجئ من موقفه الرافض لقصر التفاوض على المنطقتين إلى المطالبة بالحكم الذاتي يكشف التخبُّط والفهلوة والانتهازية التي تسود منهج تفكيره واستراتيجيته للتفاوض.

إذا كنتُ قد ركَّزت خلال المقالات الثلاثة على فضح عرمان وكشف ضحالته وطفولته السياسية، فإنه يلزمني أن أُجيب على السؤال: لماذا هذا الموقف الحاد من الحكم الذاتي، بالرغم من أني قدت اتجاهاً مضاداً في الشمال مسانداً لانفصال الجنوب؟

أقول إن منبر السلام العادل الذي تحمَّس ودعا بقوة لانفصال الجنوب حتى يُنهي مشكلة السُّودان الكبرى، يقف بذات القوة ضد كل ما يمكن أن يقود لانفصال أية ذرة من تراب السُّودان الذي أعني به السُّودان الشمالي.

من ذلك المنطلق أبديْنا تحفُّظاتنا على النظام الفيدرالي المطبَّق الآن باعتباره قفزةً مجنونةً في الهواء لم تسبقها أية دراسة متأنية، بل إنه كان من آثارها المُدمرة اشتعال القبلية والجهوية وتهاوي كل أو معظم ممسكات الوحدة الوطنية.

إذا كنا مقتنعين بأن الفيدرالية أضعفت من وحدة السُّودان، وأرجعت الناس القهقرى إلى انتماءاتهم الصغيرة، فكيف نرضى بتوسيع صلاحيات الولايات وإقامة نظام حكم ذاتي سيؤدي في نهاية الأمر إلى الانفصال؟

للأسف الشديد فإن نظام الإنقاذ من حيث يدري أو لا يدري هوى بمعوله على كل أسس الوحدة ومقوِّماتها وممسكاتها حتى المدارس القومية النموذجية التي كانت ترفد السُّودان بقيادات ونُخب سياسية كبيرة وتصهر الولاءات القبلية في النسيج القومي تم حلَّها، فمن يتأمل في بعض الأسماء اللامعة في سماء السياسة السُّودانية يجدها تخرجت في حنتوب (النميري، الترابي، نقد) وخورطقت ووادي سيدنا.

ما كان ينبغي أن يُقام نظام فيدرالي في بلد حديث التكوين لم يجتمع أهله على هوية وطنية واحدة بقدر ما اجتمعوا على ولاءات صغيرة، فالانتماء للقبيلة أعلى من الانتماء للوطن، والانتماء للهلال والمريخ أقوى من الانتماء للفريق القومي، وهكذا دواليك.

لقد أنشأت كل الولايات قنواتها الفضائية وتلفزيوناتها الولائية، ولم يعد أهل كل ولاية يشاهدون ما يجعلهم يحسون أنهم جزء من وطنٍ عاصمته الخرطوم، بل إن بعض الإذاعات الجهوية والمواقع الإلكترونية التي تقوم بالحرب على المركز باسم التهميش والمهمَّشين وغير ذلك من عبارات التغابن التي برع فيها أهل اليسار المتربّين في أحضان نظريات الصراع الطبقي.. أقول إن هذه الوسائط زادت الطين بلة وعمَّقت الكراهية للمركز وللوطن الواحد، وأشعلت من مشاعر التباغض والكراهية، ولذلك فإن أية دعوة للحكم الذاتي تعني الانفصال الحتمي في نهاية الأمر.

الطيب مصطفى- الصيحة