عشق بائعة شاي
يحكى أن الراوي الذي يلي هذا المدخل تنتابه في أحياناً رغبات ملحة للحفر والتنقيب داخل دهاليز الذاكرة بحثاً عن غزليات عابرة ومقيمة بالنفس والروح لمسها شخصياً أو رآها تتكون كحلم أو طيف لقريب أو صديق. في هذه الزاوية يستحضر الراوي تلك القصة التي حدثت لصديق من أصدقائه قبل سنوات طوال؛ تنتمي لقرن الإنسانية العشرين، الذي انصرم وتكدس بأحداثه وإنجازاته في مخزن الذاكرة الجمعية للإنسان.. القصة (العاطفية) حدثت للصديق وشغلته وشغلت معه أصدقاؤه، وصديقات وأصدقاء محبوبته، وكل من سمع بها، لطرافتها وغرابتها؛ وأخيراً الحزن المبثوث بين تفاصيل ثناياها، وكأنها تأكيد على أن الحب لا يتشيد إلا بين أسوار الأحزان.
قال الراوي: قبل سرد القصة التجربة – نتساءل هل قرأ أحدكم رواية (الحب في زمن الكوليرا)، تلك الملحمة (العشقية) العنيفة التي شيدها وبناها الروائي الكولمبي العظيم غابريل غارسيا ماركيز، ففي هذا الرواية، يستمر الحب حياً متأججاً لنصف قرن من الزمان؛ مقاوماً شروخات الزمن وأفاعيل البشر، صامداً في وجه كل شيء، لكن ما يهمنا أن بطل تلك الرواية تنتابه حالة غريبة عند بدايات مراحل عشقه؛ حالة مرضية أشبه بالإصابة بمرض الكوليرا، حالة تقترب بقدر ما من حالة بطل قصتنا، وتؤكد بقدر ما أن كثيراً من وقائع الحياة تشابه ولحد كبير وقائع الزمن الروائي، وإن كانت وقائع الحياة مسرحها (السودان)، وفضاءات الرواية مسرحها الزمن (الكولمبي) المتخيل.
قال الراوي: البنت التي عشقها الصديق كانت (بائعة شاي) بملجة (نيالا)، بنت جميلة؛ ذات قوام متناسق، ووجه دقيق الملامح، وابتسامة طبيعية معلقة على وجهها؛ لا يمكن إنزالها أو إبدالها مهما حدث.. كان الصديق يتردد عليها لتناول القهوة. بدا الأمر وكأنه إعجاب طارئ ومحاولة (خبيثة) لاستدراج أنثى (بهية)؛ دفعتها ظروف الحياة لتكون معروضة على الملأ، وفي متناول (مشاغلات ومعاكسات) الجميع، ثم تبدل حال الصديق، وتأكد من أن الأمر أكبر من كونه مجرد إعجاب (عابر)، تأكد من تورطه حين بدأ يحس بـ(الضيق) من زبائن الأنثى البهية (بائعة الشاي)، وهم بالطبع كُثر؛ لبهائها وجمالها ورقتها وابتسامتها الدائمة.
قال الراوي: بالرغم من محاولة البنت (البهية) إقناع الصديق (العاشق) بأنها تبادله ذات العشق، وذات الحنان والوله والوداد، إلا أن حالة مرضية غريبة بدأت تنتاب الصديق؛ فقد أصبح حين يصل إلى كشكها ويجده ممتلئاً بالزبائن والمعجبين يحس برغبة عنيفة في التقيؤ، في البدايات حاول السيطرة على هذه الحالة، إلا أنها هزمته وصار بمجرد جلوسه على (البنبر) بكشك بائعة الشاي (البهية) يبدأ في استفراغ كل ما في جوفه.
ختم الراوي، قال: بعد جهد و(جهاد) تم إقناع الصديق بهجر (الملجة)، ونسيان بائعة الشاي (البهية).. شهور ثم تعافى، إلا أنه كان كلما سمع باسمها أحس بتقلصات عنيفة بمعدته.
استدرك الراوي، قال: ومِنْ العشق ما قَتَلْ
أساطير صغيرة – صحيفة اليوم التالي