وطن الجدود.. والأحفاد
# في العلب الأسمنتية الاستثمارية التي أصبحت تسمى مجازاً (مدارس).. لم يعودوا يكترثون كثيراً لأمر التربية مع التعليم.. أو التربية قبل التعليم.. ربما لم يعودوا يكترثون للتعليم نفسه.. إلا من رحم ربي، ونفس في صدره تقواه ليخشاه في الناس.
قضية تراجع المدارس الحكوميه تجاوزت حتى مرحلة الكتابة.. فليس هناك من المعنيين بها من يقرأ، ناهيك عن أن يستجيب ويتفاعل، ويبحث عن الحلول، ويبدأ في إنفاذها.
والشاهد أن غالبية الأسر السودانية أصبحت تستعين بالمدارس الخاصة المتزايدة في تعليم أبنائها ولو على مضض.. متحديةً ظروف المعيشة والأوضاع الاقتصادية الضنكة في سبيل إتاحة فرصة ملائمة للتعليم.
والمؤسف أن معظم تلك المدارس الخاصة تقوم في الأساس بدوافع تجارية.. لهذا سرعان ما يتهالك بعضها ويندثر، بينما يعجز البعض عن تقديم خدمة تربوية وتعليميه ملائمة.. ولكننا لا ننكر أن بعضها بالمقابل نجح نجاحاً باهراً في التأسيس لمؤسسات تعليمية رائدة بإمكانيات ممتازة وخدمة مميزة وكادر بشري مميز.
وقد قدر لي مؤخراً أن أقف على أحد هذه النماذج التي ترفع لها القبعات.. (مؤسسة الجوده للتعليم الخاص).. التي تضم في باقتها مدارس (الجودة) لتعليم الأساس للبنين والبنات وقبلها رياض (براءة).. كان ذلك في الاحتفال الفخيم الذي أقامته المدرسة إحياءً لذكرى الاستقلال الثامنة والخمسين.. الجدير بالذكر أن الاحتفال قد خرج عن النمط التقليدي المعتاد من أغانٍ وقصائد وأناشيد ليقدم لنا رجال الاستقلال في أبهى حللهم، وهم يمثلون تلك اللحظات التاريخية بتفاصيل دقيقة ومعلومات قيمة.. واعترف أن بعض الأسماء والكلمات التي عرضت طرقت مسامعي للمرة الأولى.. وعرفني عليهم أطفال صغار لا يتجاوزون العشر سنوات وهم يحدثوننا عن وقائع وتفاصيل ودوافع الاستقلال بصدق وإعجاب.
هذا.. بينما نعلم جميعاً أن بعض طلاب الجامعات الموقرة لا يعرف حتى من هو إسماعيل الأزهرى!!!
ومما أثار إعجابي.. تلك العلاقة الجميلة التي لمحتها بين الطلاب ومعلميهم مشوبةً بالتبجيل والحب.. التي ذكرتني ما كنا عليه قديماً.. قبل أن يختلط حابل طلاب العولمة بنابل المعلمين الذين امتهنوا هذه المهنة الرسالية، فقط لأنهم لم يجدوا البديل المناسب لطموحاتهم!!!
# لقد أعادت لي مدارس الجودة الكثير من ثقتي في التعليم.. وقدمت لنا يومها درساً تاريخياً في الاهتمام بالتربية والصحة والفكر والروح قبل التعليم.. فالفقرات الرياضية من جمباز وكراتيه ورقص أبرزت مواهب رائعة.. تماماً مثلما استمتعنا بالمواهب الغنائية والتمثيلية.. ولشدما طربت لكورال المعلمات الذي لم يتوان عن مشاركة تلاميذه بفقرة كاملة من الأغاني الوطنية بكل أريحية وتعاون، وهن يتوشحن بعلم السودان في ثيابهن المحتشمة.. لم يتراجعن.. ولا خجلن.. بل قدمن درساً في الوطنية والشجاعة الأدبية للجميع.
هذا لعمري ما يجب أن تكون عليه المدارس.. وما يستحق أن يفنى وراءه الآباء سعياً لتأمين تلك السوانح التعليمية الشاملة لبنيهم.. نحن نحتاج للتربية أولاً.. لحرص المدرسة على غرس القيم والأخلاق والحديث بقلب مفتوح عن الدين والعرف والتاريخ والحياة.. فقد أصبحت الأسر تركض بجميع أفرادها خلف لقمة العيش.. وتحتاج مؤازرة حقيقية من المعلمين ليقوا الأبناء مغبة أمراض العصر والانحرافات التي تفاجئنا بالجديد المبتكر في كل حين، وتحتاج للعون الجماعي في مواجهتها.
وعلى الأسر كذلك أن تكون من الوعي بالقدر الذي يخلق لها علاقة وطيدة وطيبة مع أسرة المدرسه.. وهنا أشيد بالحضور النوعي من الآباء والأمهات بمختلف أنواعهم وتخصصاتهم والذين حرصوا على حضور الاحتفال رغم قيامه في الصباح الباكر الذي قد يتعارض مع أشغال البعض.. كما أشيد بأسرة المدرسة لحسن الاستقبال والضيافة وعلى رأسهم المدير العام د.عبد الله محمد البدوي ببشاشته المعهودة وتعامله الراقي وطموحه الكبير الذي كان سبباً وراء قيام هذا الصرح الشامخ ثم المحافظة بإحكام على رسالته التربوية الرائدة.. وأهمس في أذنه: (كل ما أنت عليه من تميز ونجاح وعظمة مرده لتلك المرأة التي رأيتها تقف إلى جوارك وخلفك في كل حين.. فبقدر ما رأيتك تمنحه لها من احترام وتقدير وإكرام.. أكرمك الله وفتح عليك).. دامت الجودة التي تسبغ الجمال على كل شيء.. ودام وطن الجدود الذين كتبوا التاريخ والأحفاد الذين ننتظر أن يكتبوا لنا المستقبل الأخضر.
إندياح – صحيفة اليوم التالي