رأي ومقالات

الصادق الرزيقي : على مائدة مسؤول عربي..

على الطريقة العربية القديمة المتجدِّدة، خاصة العروبة في بدويتها ونقائها، اختطفنا ونحن في الطريق بعد رحلة مُرهقة من مطار الدار البيضاء، متجهين الى مدينة طنجة المغربية قُبالة جبل طارق عند ملتقى المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط، اختطفنا، رئيس الوزراء المغربي السيد عبد الإله بن كيران، ونحن وفود اتحادات الصحافيين العربية المتقاطرين على المملكة المغربية للمشاركة في اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد الصحافيين العرب، كلٌ منا جاء من بلده، تجمعنا في الدار البيضاء، ودون سابق إنذار تم إبلاغنا إننا سنتوقف في العاصمة الرباط، لنتناول وجبة الغداء مع رئيس الحكومة الذي ينتظرنا في داره، ولم يكن أكثرنا مهيئاً نتيجة للسفر الطويل، وكلنا جاء بطائرات الخطوط الجوية الخليجية التي قطعت المسافة من الخليج الى المحيط..
> في دار ضيافته عند الباب الرئيس، استقبلنا السيد بن كيران رئيس الوزراء بوجهه البشوش وطبيعته السمحاء. كان بسيطاً وتلقائياً، مثله مثل كل عربي في خلائه وأمام خيمته وبين مضارب قبيلته، لم يكن هناك برتوكولاً ولا مراسم ولا تعقيدات تقتضيها مثل هذه المواقف التي تجمع ممثلي الدول العربية من قادة الرأي والصحافة في بلدانهم ، وهم أسماء كبيرة في كل قُطر جاءوا منه.

> فور الجلوس في الصالون الواسع الدافيء، بدأ الحوار قوياً وساخناً، عن الوضع العربي وما تمر به الأمة، ولم يترك بن كيران أية فواصل بينه وبيننا، وأزال الحواجز بسرعة بخلفيته الصحافية ومعه وزير اتصال وهو عضو لا يزال في نقابة الصحافيين المغاربة، قال كل ما عنده عن الأوضاع العربية، واستمع لكل ما عندنا، وكنتُ صريحاً للغاية، وأذهلت الحضور وأغلبهم من تيارات وأطياف سياسية وفكرية عربية متنافرة ومتحاربة في بعض الأحيان، وأهم ما قاله رئيس الوزراء المغرب وهو يعتز به، انتماءه الفكري والسياسي للحركة الإسلامية المغربية، وذكر أن ما يجري في المشرق العربي في البلدان التي تعاني مشاكل كبيرة، هو نتيجة للإقصاء ومحاربة الآخرين بمواقفهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية. فالحجْر على الأفكار ومنع المشاركة والترصُّد والحجب والتآمر والإبعاد والتهميش والتجريم ومنع التيارات الدينية والسياسية من الاندماج في المجتمع والحياة السياسية، هو سبب ما يحدث في المنطقة. وضرب مثلاً بما جرى في الجزائر مطلع التسعينيات بعد انتخابات حُرة نزيهة وما يحدث الآن في بعض البلدان والعربية.

> وقال إن التيارات الإسلامية المندمجة في مجتمعاتها والتي أجرت مراجعات فكرية عميقة في أُطروحاتها السياسية والاجتماعية، هي الناجحة الآن في قيادة شعوبها ودولها. وحكى عن كيفية صعود التبار الإسلامي المغربي الى السلطة وأسباب النجاح في ذلك، وتناول في تقييمه لمستقبل الوطن العربي واشتراطات النجاة من قيود الواقع الراهن.
> عندما جلسنا الى مائدة الغداء، وكنتُ على الطاولة الرئيسة الى جواره، توجَّه بالحديث الى جموع الصحافيين العرب، عن مجمل العلاقة مع السودان والتواصل الاجتماعي القديم والترابط التاريخي رغم الجغرافيا بين السودان والمغرب في الفقه المالكي والطرق الصوفية والهجرات لعائلات مغربية استوطنت السودان، وقال بالحرف الواحد (هناك صحافة سودانية جيِّدة للغاية، وهناك صحافيين سودانيين ممتازين، وأنا قدَّم لي الصحافي السوداني المقيم في المغرب طلحة جبريل خدمة جليلة في بدايات عملي السياسي وكان ينشر لي البيانات السياسية والتصريحات في الشرق الأوسط والصحافة المغربية، وساعدني كثيراً)..

> ولم يكتفِ بذلك، تحوَّل للحديث عن زيارته للسودان قبل سنوات، وعلاقاته في السودان، وإعجابه بأهله. وأستطيع أن أقول إنني شعرت بالفخر لبلدي بهذا الحديث من رئيس الحكومة المغربية، وكان بوجود عدد من وزراء حكومته، وزير المالية، ووزير الاتصال، ووزير الشؤون البلدية، ووزراء دولة، وكلهم من جيل الشباب. وتداخل وزير مالية المغرب عن الاستثمار في السودان والشركات المغربية التي تعمل في مجال التعدين (مناجم) وشركات أخرى تعمل في مجال السكر والزراعة..
> بالفعل العلاقة السودانية المغربية قديمة ومتصلة، لم تنقطع ولم تؤثِّر عليها الجغرافيا، كما قال بن كيران، وهي تحتاج الى تعزيز وتقوية بالتواصل المستمر والتعاون البنَّاء وطرح مشاريع مشتركة في مختلف المجالات. ويمكننا أن نستفيد من تجربة المغرب في التنمية والخدمات والحكم الرشيد وترسيخ سيادة القانون. فالتطورات التي يشهدها المغرب في عهد الملك محمد السادس، تطورات كبيرة على الصُّعد الاقتصادية والتنموية والخدمية، ولفائدة المجتمع المغربي، تستحق الاستلهام منها والإفادة من تجربتها، كما أن تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم ومراجعاته الفكرية تتشابه مع تجربة الحركة الإسلامية السودانية، وقد تكون ذات نفع إن تمت دراستها بدقة في كيفية التصالُح مع الجميع وبناء الثقة والمشي فوق الأشواك، والجيل الجديد من الإسلاميين في العالم العربي ويمثِّل بن كيران طيفاً منهم، له القدرة على إنتاج فكرٍ اجتهادي سلطاني من جديد، ويقدم طريقاً ثالثاً يُخرج الأمة العربية والعالم الإسلامي من كبواته وخيْباته وهفواته وغفوته..

صحيفة الإنتباهة