منوعات

“في قلب الخرطوم” المعاصر التقليدية.. زيت ولد وأم جغوغة ونياق تدور

لفتت انتباهي ناقة تطوف حول جذع خشبي مجوف، بعد أن رُبط عليها بإحكام ورُصت بعض جوالات الـخيش فوق بعضها البعض جواره، رأيته بمنطقة الشقلة في الفتيحاب، أثار فضولي فترجلت من الحافلة لأستكشف أمر معصرة زيت السمسم أو زيت الولد كما يحلو للبعض.
العصارات التقليدية لم تكن موجودة في العاصمة بشكل واضح على جانب الطريق العام كما هو الحال مع هذه العصارة، وكان السكان يستجلبون الزيوت من المصانع أو الأقاليم التي تنتجها.
طريقة مبتكرة
داخل الدكان التابع للعصارة، كان صاحبها منهمكا في تصفية الزيت بمصفى من البلاستيك، وهنالك كميات كبيرة من زجاجات المياة الغازية الفارغة، وضِعت داخل كيس كبير في ركن قصي من المحل بعد أن تم غسلها جيدا، كي تكون جاهزة للاستعمال وقريبة من متناول يده حين يأتيه زبون على حين استعجال، سألته من أين اتته فكرة امتهان هذه المهنة، ولماذا اختار هذا المكان ليعمل به، وهل أثرت المعاصر الصناعية على سوق البلدية؟
المتفرجون والمصورون
الرشيد عبد الله 29 عاما قال إنه امتهن هذه المهنة منذ أن كان طفلا في الرابعة عشرة من عمره، في قريته ومسقط رأسه التي تسمى (نملة) الواقعة بالقرب من أم روابة في شمال كردفان، وتعلم الحرفة من شقيقه الأكبر الذي ورثها بدوره من والده. وواصل قائلا: انتقلت بها إلى الخرطوم منذ العام 2001م، وقد لاحظت أن العمل في البلد يختلف عن هنا، ففي قريتنا نحضر السمسم من المزارع ونقوم بعصره في المنزل، لكن العمل في عصارة في الخرطوم أمر مكلف جدا، فهنالك إيجار محل ورسوم نفايات وما شابهها من الالتزامات تجاه المحلية. وبالرغم من أن موظفي المحلية يخبروننا دائما أنه لا يحق لنا وضع الناقة أمام المحل، إلا أنهم تفهموا موقفنا فيما بعد، فدورانها حول المعصرة بمثابة إعلان للدكان، وبالتالي سنتمكن من لفت انتباه أكبر عدد من المواطنين، وهذا ما يحدث بالفعل، فكثيرا ما يتوقف المارة أمام محلنا لتصوير الناقة أو السؤال عن سبب وجودها بالقرب من الطريق العام، وبسبب وجودها أمام الدكان استطعنا اكتساب الزبائن إلى جانب المصورين والمتفرجين.
صناعة الزيوت
ويضيف الرشيد قائلا: يتطلب عصر زيت السمسم قرابة الساعة والنصف، فيها يمكن استخراج كمية تملأ إناء بحجم (المِد)، أي قرابة الرطلين ونصف، وتبدأ مرحلة العصر بوضع كمية من السمسم داخل التجويف الخشبي للعصاره، من ثم تقوم الناقة بالدوران حول العصارة ليحرك حبات السمسم ويضغطها مع بعضها البعض، وبعد عشر دقائق من حركة الدوران هذه، نقوم بأنقاص كمية السمسم من داخل العصارة، وبعدها نرش قليل من الماء على الكمية المتبقية داخل الجذع، وذلك كي لا يتآكل الخشب، فيؤدي احتكاكه إلى كسر العصارة، وبعد عصر السمسم أقوم بغرفه بـ(الكوز) المخصص لذلك، من ثم أصفيه بمصفى العصائر العادي. ولا أضيف له أي شيء له، فهو زيت صافٍ، وسعر الرطل منه يتفاوت ما بين الـ 20 و25 جنيها، وبعد انتهاء عملية تعبئة الزيت أقوم بأخذ السمسم المعصور (الأمباز) وأطعم بعضه للناقة، وأبيع ما فاض عنه، ويعد الأمباز غذاءً جيداً للحيوانات، فيعمل على تسمينها ويزيد من حليبها.
أنواع مختلفة
وتختلف أنواع السمسم التي نستخدمها لكن يعد (الحريحي) هو أفضلها، وهو سمسم كردفان الذي يتميز بسرعة عصره وكثرة زيته، يليه سمسم كادوقلي (داري) الأسود اللون، وبما أن زيته قليل فيستفيد صاحب المعصرة من بيع الأمباز المستخرج منه، ولا يُحبذ سمسم القضارف في المعاصر البلدية لأنه لا يُعصر بسهولة، وبالرغم من كثرة المعاصر الحديثة إلا أن المعصرة البلدية لها زبائنها.
إلفة ومودة
ويستطرد الرشيد: وأجد أن عمل المعصرة البلدية في العاصمة مربح أكثر منه في القرية، وذلك لأن الإقبال عليه هنا أكثر، فلدي زبائن من مختلف أنحاء العاصمة المثلثة، ولا أجد وقتا للراحة؛ فأنا أعمل منذ السادسة صباحا حتى العاشرة مساءً، هنا ابتسم ثم أضاف كثيرا ما يسألني المارة عن كيفية تعاملي مع الناقة باعتبارها من الحيوانات الحاقدة، لكنني لا أجد صعوبة في التعامل معها، فهي لو ألِفت صاحبها لن تكون هنالك مشكلة، وهذه الخبرة في التعامل معها تطورت من خلال الاحتكاك الطويل في العمل، ففي الماضي قمت بضرب إحدى النياق التي يمتلكها والدي، وبعد مرور عدة أشهر، وبينما أنا أمتطيها على حين غفلة مني، عضتني وأسقطتني من ظهرها، ولولا قرب بعض الناس مني كانت ستدهسني، وفي اليوم التالي قمت ببيعها لأن الناقة قد تقتل صاحبها، وهي من الحيوانات التي لا تنسى الأذى مطلقا.
توفير الطعام
ويضيف: ولكي تستطيع العمل في المعصرة أقوم بإطعامها جيدا، فهي تأكل في اليوم جوالاً من الفول و15 رطلاً من الأمباز، كما تشرب (جركانتين) جالونين من الماء، وبرغم أنها من أكثر الحيوانات التي تتحمل الجوع والعطش، إلا أننا يجب أن نطعمها أكثر من المعدل الطبيعي، فالعمل في المعصرة مرهق جدا، ولو لم نعتن بها لن تتمكن من العطاء بصورة جيدة.

اليوم التالي