الخبز أولاً أم الدستور؟
*ولا يزال الجدل محتدماً، إن كانت الحرية أولاً أم الخبز؟! إن كانت الأولوية لإنتاج الدستور أم لإنتاج القمح، إن كان الأكثر إلحاحاً هو الإصلاح الاقتصادي أم الإصلاح السياسي!
* أدفع بهذه التساؤلات المقلقة إلى لجة المسرح السياسي المضطرب والذي يموج بتدفقات غزيرة من التفاعلات والاحتمالات والتكهنات المنتظرة.
* غير أنني أزعم أن أكثر من تسعين بالمائة من السودانيين أوليتهم ودستورهم وحريتهم هي توفير الخبز وصناعة الحياة الكريمة، على أن الإصلاح الاقتصادي الذي يرسخ لمزيد من الإنتاج والوفرة هو خير لهم ألف مرة من المزيد من عمليات الإنتاج السياسي التي لا تساوي عندهم (كيلة فيتريتة واحدة)!
*حتى التغييرات الأخيرة الكبيرة التي غيبت كثيرا من الوجوه لم تكن هموم جماهير بقدر ما كانت أشواق نخب ومجموعات صفوية، المهم عند المواطن أن يذهب صباحاً إلى المخبز فيعثر على خبزه بيسر وأسعار في متناول يده ولا يهمه بعد ذلك من هو وزير التجارة والتموين.
* يحسب على الإنقاذ التي هي الآن بصدد إنتاج حزمة سياسية جديدة ستنزل إلى أسواق السياسة قريباً، يحسب عليها غزارة الفعل السياسي وتضاؤل وتراجع الإنتاج الغذائي، فلم نسمع في أي موسم من المواسم بمفاجأة اقتصادية داوية بإمكانها اختراق حالات المسغبة والضنك والعوز، بقدر ما صمت آذاننا بالمفاجآت السياسية.. ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان.
* يذهب الشيوخ ويأتي الشباب، يأتي الشباب والشيوخ أو لا يأتون، يتحالف الأمة القومي ويتخلف الاتحاديون، أو يأتلف الاتحاديون ويعكتف الأميون، يزداد حجم الأحزاب المشتركة أو ينخفض وزن مشاركتها، كل ذلك مجتمعاً لا يعدل اهتمام الشعب بعمليات وزن الرغيفة.
*وزن الرغيفة عندنا هو وزن الحكومة، فكلما كانت الرغيفة بخير كانت الحكومة بخير، لا فائدة لحكومة ذات قاعدة عريضة ورغيفة ضيقة، فلعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن رغيف بعض الحكومات يضيق وينعدم.
* مهما تضاءلت أوزان الحرية وتراجعت أحجامها في أسواق السياسة فلن يحمل ذلك المواطنين إلى أن يقفوا في صفوف وطوابير طويلة، لكن إن حدثت ندرة في الخبز فيكون ذلك بامتياز (يوم الطوابير) وعيدهم ومناهم!
*يمكن أن نعيش سنة بأكملها بلا دستور، وفي المقابل ليس بمقدورنا أن نحيا بضعة أيام بلا خبز، فالخبز أقوى وأجبر من الدستور بل الخبز هو الدستور.
*والأخطر من ذلك في هذا الزمان هو أن شرعية القمح أضحت أعظم من شرعية الصناديق نفسها، وكثيراً ما أضرب مثلاً بتعددياتنا السودانية التي أطاحها الخبز برغم أغلبياتها الديمقراطية والبرلمانية، فكما لو أن شرعية أي حكومة هي بمقدار ما تختزنه في مطاميرها من قمح، وقد تنفد شرعية الحكومية مع نفاد آخر قطعة خبز.. فإنما الحكومات الخبز ما بقي فان همو ذهب خبزهم ذهبوا.. وقديماً قيل الخبز اولاً ثم الاخلاق بل رب العزة من اقر ذلك (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
* أقول ذلك وأنا أشاهد وأسمع في الأحياء وأرصفة المدينة والأسواق وقارعة الطرقات، استخفاف الجماهير (بالجريمة السياسية) المرتقبة والأسعار تمسك بتلابيبهم ولا حديث يلامس جراحاتهم النازفة ويضمدها.
* لا فرق أن يكون الحبيب الإمام، أو الشيخ الترابي الهمام أو حتى الرفاق، على سدة الحكم، لكن الأهم أن يكون الخبز والمواصلات وحليب الأطفال وامصال المرضى في متناول يد الجميع، أوشكنا أن نكفر بالسياسة والسياسيين كما الكتيابي:
مكاء صلاة اليمين عليك
وحج اليسار إليك نفاق
وأقطع حد ذراعي رهاناً
ستكبر ثم تراهم سمانا
ثم يشد عليك الوثاق.
ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي