داليا الياس

نعمة الذوق !


وليس للأمر علاقة بوظيفة اللسان.. إن له علاقة بالامتنان والإحسان..

ومن المؤكد أن (الذوق) والتعامل الراقي واللياقة موهبة ربانية، وهذا ما توصلت له علمياً بعد العديد من المواقف والمفارقات اليومية، فالتهذيب والسلوك الإنساني الجميل لم يعودا مرتبطين بالبيئة وشكل التربية والأصل الطيب فحسب، ولكنهما نعمة من نعم الله يمنحها لمن يشاء وينزعها عمن يشاء بقدرته تعالى.

فإذا كنت يوماً تقف في صف من الصفوف الكثيرة في حياتنا – كصف كهرباء الدفع المقدم- مثلاً (وشالتك الهاشمية) فقررت أن تتنازل عن دورك لسيدة رأيتها تقف بعيداً في حيرة من أمرها، فاستعد أولاً لسماع ما لا يرضيك من أفراد الصف. فسيبدأ بعضهم بالتذمر والاحتجاج وقد يكيل لك بعضهم السب واللعنات، فإذا كان هذا كله لا يعنيك على اعتبار أنك رجل (جنتل) تريد أن تتصرف بلباقة مع هذه السيدة (المسكينة)، فاعلم أنها قد تأخذ دورك هذا دون أن تبادرك بالشكر أو تبتسم في وجهك وكأنه حق فطري لها، بالإضافة إلى احتمال أن تنادي رفيقتها لتلحق بها وتنجز مهمتها بدورها دون أن يعنيها مدى إحراجك ولا ما تعرضت وسيتعرض له ممن ورائك، ثم تذهب الاثنتان إلى حال سبيلهما وتتركانك تعض أصابع الندم وتنزوي خجلاً وتقسم – بينك وبين نفسك- على أن لا تعود لمثل هذا التصرف الأحمق.. (ومنعول أبوها شهامة).

وإذا كنت تقود سيارتك في شارع الأسفلت وحاولت الدخول إلى الاتجاه المعاكس، فتأكد أنك ستنتظر طويلاً حتى تجد من يتوقف ويسمح لك بالمرور، بينما تنطلق أصوات الأبواق من خلفه احتجاجاً على ما قدمه لك من مساعدة، وأتمنى بعدها أن ترفع له يدك بتحية شكر وتقدير حتى لا يندب حظه لأنك لم تضع اعتباراً لخدمته (الجليلة) وتركته يتلقى السخط وحده لدرجة تدفعه ليردد بينه وبين نفسه (منعول أبوها شهامة).

وإذا ضللت يوماً طريقك.. ولم تعرف كيف تصل لعنوان معين لم يكن وصفه دقيقاً، وقررت أخيراً أن تسأل أحد المارة أو القاعدين فهيئ نفسك لمختلف أساليب الرد، فمنهم من يرد عليك بقرف وكراهية ويكاد يبصق على وجهك وهو يهز رأسه علامة الجهل بما تسأل عنه.. ومنهم من يلقي عليك العديد من الأسئلة (الاستخباراتية)، وكأنه يشك في سبب قدومك لهذا العنوان.. ومنهم والحمد لله من يرحمك ربك به فيتبسم في وجهك ويمعن في توجيهك حتى أنه – أحياناً- يصحبك إلى حيث تريد.. ولا تنسى أن تدعو له بالعافية وتبذل له الشكر الجزيل لأنه قد يكون أرجأ مشواراً مهماً لأجل عينيك، أو تأخر عن العودة للمنزل، أو غيّر خط سيرة من باب الذوق، والشهامة.

وإذا تعطلت سيارتك فجأة، وأنت في عجلة من أمرك، ولا وقت لديك لاستدعاء (الميكانيكي) لأنها ببساطة محتاجة (دفرة) فلا تعتمد كثيراً على شهامة المارة وذوقهم ولا تنتظر أن يبادر العديد منهم (زي زمان) ليتطوعوا بمعاونتك ويظلون معك حتى يدور محرك عربتك بسلام، وأعلم أن العديدين سيمرون بك دون أن يعنيهم أمرك أو ينظرون نحوك، وقد تضطر مرغماً لاستجداء معاونتهم بتسولك لهم، وقد يقومون بذلك على مضض لدقائق معدودات ثم يمضون لحال سبيلهم قبل أن يدور محرك السيارة، أو يعتذرون لك بذريعة أنهم على عجلة من أمرهم وليس أمامك سوى أن تؤمِّن عربتك وتتركها في مكانها حتى تذهب وتعود بمختص ومعاونين مدفوعي الأجر بعيداً عن الشهامة. والعديد من الأمثلة التي تؤكد لنا تراجع مفهوم الذوق والكلمة الطيبة وانتحار الشهامة على أعتاب اللامبالاة لا سيما في المركبات العامة، وكلها بالأخير تصب في اتجاه واحد هو إننا للأسف فقدنا الكثير من ميزاتنا القديمة كشعب سوداني كريم تحوّل بقدرة الفقر إلى شعب لئيم.

تلويح:

أنا كنت ماااااالي ومال كده؟!