“الطيب” سواق اللوري وتاجر السمسم
والمهنتان )السواقة( و)تجارة السمسم( كان يمتهنهما صديقي الطيب، وكنت أنتظره كل يومي ثلاثاء وخميس، وهما اليومان اللذان يأتي فيهما بحصاد تسوقه بأسواق )أم دورو( في قرى وفرقان جنوب دارفور، جهة تلس وبرام وما حولهما من أسواق أسبوعية صغيرة في النخارة والعمود الأخضر وغيرهما. يسافر في هذه الرحلة طوال موسم المحاصيل، نشط وحيوي ومفعم الشباب، ويشاركه الرحلة عدد قليل من تجار المحاصيل الصغار، يتاجرون في الكركدي والفول والعرديب والصمغ العربي والذرة والسمسم الأحمر، أما هو )سواق اللوري( فمختص فقط بالسمسم الأبيض، وهو الوكيل الشرعي لكل من يسافر على ظهر لوريه السفنجة )بيد فورد( زرقاء المقدمة، والطيب وكيلهم الرسمي، وكنت أنا من يحاسبه ويراجعه في أوزان بضائعه وقناطير محاصيله وأسلمه أمواله وأموال من معه كاملة لا تنقص فلسا.
العلاقة بيننا كانت محصورة فقط في المعاملات التجارية ولم تتعد ذلك قط في أيامها الأولى؛ استلم الأوزان، أراجع المبالغ المستحقة، أسلمها للطيب، ثم انسحب بعيدا وأراقبه وهو يحاسب بدوره تجاره الصغار من مرافقيه على اللوري، يضاحكهم ويهاظرهم وهم يلتفون حوله في حب كبير، إلى أن جاء يوم ولسبب ما تخلف الطيب عن السفر وفضل أن يقضي بقية يومه معنا في الدكان، واليوم – بلا عمل – طويل وممل في سوق نيالا الكبير.. دردشنا قليلا، وكنت باردا لأني اقتنص مثل هذه الفرص في القراءة، فاغتنمت لحظة صمت ما تمددت بيننا وأخرجت من درج مكتبي ديوان البحر القديم للشاعر مصطفى سند، وحاولت الانسحاب تكتيكا من الطيب سواق اللوري والانزواء مع كتابي، لكني سمعته يردد من مكانه: “للريح خمرك للمساء وللظلال والبرق لي.. والرعد والسحب الخطاطيف الطوال
تروى هجير النار تحت أضالعي الحرّى وتلحف في السؤال كيف ارتحالك في العشيِّ بلا حقائب أو لحاف؟”.
في ذلك اليوم البعيد، عرفت ما لم أعرفه من قبل عن مصطفى سند، وشعراء آخرين، تدفق الطيب السواق بشكل أذهلني وهو يتلو الأشعار، متنقلا من شاعر إلى آخر، ومتحدثا بين كل قصيدة وأخرى عن مسألة نقدية، فنية وجمالية، أو عن مناسبة مزعومة أو طرفة عن الشاعر والقصيدة.. دهشت، وصرت كل خميس وثلاثاء انتظر مقدم لوري السمسم الأبيض، ومعه كتاب أو اثنان وحديث حول الرواية والفلسفة والدين والسياسة والتاريخ وأخيرا جدا.. المحاصيل.
في يوم خميس أو لعله ثلاثاء من أيام نيالا البعيدة لم يحضر الطيب، ولكن حضر شركاؤه الصغار، ثم رويدا رويدا تسرب الخبر: “اغتالته بالأمس عصابات النهب”.. تحاسبنا ومضت الحياة.
لم يخطر لي – وقتها – أن أسأله من هو ولمَ هو سواق لوري وليس شاعرا وأين محاصيله من الكتابة؟