جانا الخضر في بابل
بي عشق قديم يتجدد كل يوم للعراق، كيف لي أن أنجو من ذلك الهوى، فالعراق هو المتنبئ وهو أبو تمام والجواهري وحميد سعيد، وهو بلد الجاحظ، وعباس بن فرناس، وهو مهجع الخليل بن أحمد وأرض وادي عبقر كله. استبد بي هذا العشق منذ أن عاد المتنبئ من مصر حين هبت بجسمه رياح الدبور مستقبلات مهب الصبا، فسأل الريح أين أرض العراق، فقالت: ونحن بكثبان ها. وطفا ذلك العشق بمرافقتي بدر شاكر السياب وهو يتهافت على (شناثيل ابنة الجلبي) ويفنى العراق في أنشودة المطر:-
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها عن سفار
وليت الأرض كالأفق العريض بلا بحار
فهل أعود إلى العراق وهل يعود؟
أتراه يازف قبل موتى ذلك اليوم السعيد؟!!
ولأني عاشق أصيل لذلك البلد، اعتدت الذهاب كلما تيسر الحال لمطعم بابل بمدينة الرياض، واعتدت الجلوس على صالة (عشتار) ضمن صالاته الكثيرة التي تنقل طقس بغداد بكل ذلك العبق، وقد تيسر لي يوم الاثنين الماضي الذهاب لذلك المطعم، غير أني فوجئت بكوكبة من الصحفيين والكتاب ضمنهم المفكر النابه غسان علي عثمان وفوجئت بطاقم إعلام ولاية الخرطوم الطيب سعد الدين والقصاص. كان الوالي على موعد غداء مع منظمة (جانا) الخيرية، ودون أي ترتيب وجدت نفسي في قلب البرنامج وصرت ذراعا مهمة فيه.
منظمة (جانا) أحد تجليات عبقرية الشباب السوداني المسكون بالوطن والتراب والناس، تفاكروا عن طريق (الواتساب) في الكوارث البيئية منذ الخريف الماضي، وذلك أول استخدام إيجابي لـ(الواتساب) يتجاوز الإشاعة والبذاءة والكذب الضار والنكات الحامضة والصور التي تخجل أن تراها الحيوانات.
عرضت المجموعة إنجازاتها الواسعة منذ الخريف حتى الشهر الماضى، منجزات تشعرك أن الشباب في عنفوان العافية والنضج والاستقامة والاستعداد الفطري للإجابة على نداء (يا أبومروة).
معظمهم من الإعلاميين، تتوزعهم القنوات السودانية والعربية والوكالات، حين يتحدثون عن مشاريعهم المستقبلية تحس أن النيل امتزج بعنفوان الوطن وصار كل مستحيل في طاعة الإمكان، أهدافهم مسح الريح عن جبين البلد، وتدفئة البردان وإغاثة الغريق، وتصريف الماء الآسن إلى حيث مواقعه في الأودية، وتنشيط الأذهان بالقراءة وجعلها عادة يومية بتداول الكتاب. شهد الله أنني حين استعرضت المجموعة فيلمها الوثائقي عن منجزاتها بأقل الإمكانات (بكيت قدر ما الله أداني) أحست أنني أنتمي لبلد هذا خراجه.
أصر الوالي – رغم أنني لم أكن ضمن البرنامج – على مخاطبة المجموعة فلم أخاطبهم لأنهم خاطبوني فطلبت منهم قبولي عضوا متطوعا معهم وما زلت أترقب قبول عضويتي.
خاطب الوالي ذلك اللقاء بحميمية ومحبة وبعشم كبير بأن تضيق هذه القدرات المتطوعة نفسها لحملة النظافة الكبرى التي سيتم تدشينها غدا الخميس لنصعد معا بالخرطوم نظيفة وخضراء وخالية من البعوض والذباب.
لفت نظري أن جميع هؤلاء الشباب من خريجي الجامعات ومن حملة الشهادات العليا ويتمتعون بقدرة هائلة على الإفصاح المبين والإبانة الفصيحة، ويرتكزون على تربة جمالية ناضحة بالوطنية، وخيل لي في تلك اللحظات أنني إذا فتحت قلب أي شاب منهم لوجدت في سويدائه مرهفا وقطنا طويل التيلة!
كان يوما بهيا عصر الاثنين الماضي، طمأنني على بلدي، وأشعرني بقوة أن للتراب حماة من المتطوعين.