جعفر عباس

عشاء الموتى غداء الصغار

قدمت فضائية عربية دعوة لي قبل أيام للمشاركة في لجنة تضع خطة برامجية لها لشهر رمضان المقبل، وبكل قلة ذوق رفضت الدعوة وقلت بوقاحة: لن أشارك في أي نوع من العبث باسم رمضان، لأنه شهر محفور في وجداني بخصوصيات اندثر معظمها ولكنها تبقى مخزونة في سنام ذاكرتي، فأتألم لأن رمضان «تعولم»، وأحزن لأن الكثير من المظاهر الرمضانية اختفت من مدن السودان الكبرى، مثل جلوس أهل كل حي في الشوارع العامة عند الإفطار، ليتشاركوا الطعام، وليتسنى لكل عابر سبيل حالت ظروفه دون تناوله الإفطار في بيته، وفي شهر رمضان المنصرم (عام 2014) كان السفير الأمريكي في الخرطوم عائدا إلى قواعده بعد زيارة لمنطقة في شمال الخرطوم مع قرب غروب الشمس وفوجئ بأشخاص يقطعون عليه الطريق فقال في سره: رحنا في داهية يا ناس يا عسل داعش وصل، ولك أن تتخيل سعادته عندما اكتشف أن أهل الحي القريب من الطريق السريع يوقفون السيارات العابرة مع قرب موعد الإفطار ليشارك ركابها في الإفطار الجماعي في الحي.
وفي بلدتنا في شمال السودان كان على كل صبي أن يحمل صينية الإفطار إلى المسجد، وكانت العادة أن يتحلق الرجال حول المائدة الرمضانية منذ أذان المغرب حتى ما بعد صلاة التراويح، وكانت تلك الجلسة الطويلة تتطرق إلى القضايا الاجتماعية التي تخص أهل الحي، ولم يكن الصغار في ذلك الزمان مدللين أو مدلعين، بل بالعكس لم يكن من حقهم منافسة الكبار على أطايب الطعام، ومن ثم لم تكن بطوننا تمتلئ إلا ونحن نعيد الصواني إلى بيوتنا، حيث كنا نجلس بما تبقى من محتوياتها في أماكن منزوية ونلتهم الأخضر واليابس، وكأنه آخر زادنا.
كان بنا نهم عجيب في رمضان لأن وجبتي الإفطار والسحور مميزتان، وياما جاهدنا كي نبقى يقظانين كي لا تفوتنا الشعيرية والرز باللبن في السحور، ولكن هيهات في منطقة كان البقاء فيها خارج البيت حتى السابعة مساء يعتبر «صياعة وصرمحة»، وكان اليوم الرمضاني الكبير بالنسبة إلى الصغار في عموم وسط وشمال السودان هو «الجمعة اليتيمة»، حيث جرت العادة على أن تقوم كل عائلة مات لها قريب خلال الأعوام الخمسة أو الستة الماضية بإعداد فتة يتم فيها رش الخبز بمرق اللحم، وكانوا يسمون ذلك «عشاء الميتين»، ويعتبرونه صدقة عن أرواحهم، وكنا نعرف البيوت التي عليها تقديم ذلك «العشاء» في موعد وجبة «الغداء»، ونطوف عليها، ونكتفي في غالب الأحوال بالتقاط اللحم كي يبقى في بطوننا متسع لما تقدمه عشرات البيوت، وكنا نتسم بـ «اللؤم» فنتجاهل بيوت الفقراء الذين كنا نعرف أن إمكاناتهم المادية لا تسمح لهم بالسخاء في تقديم اللحم، ونركز على بيوت البرجوازيين من الموتى، فالبرجوازيون لا يفوتون فرصة حتى لو كانت المناسبة حزينة لإثبات أنهم أعلى شأنا من الآخرين، وبالتالي كان هناك في تصنيفنا موتى خمسة نجوم نحرص على زيارة بيوت ذويهم، ونحن موقنون أنهم سيقدمون لنا وجبة «عليها القيمة»، وموتى «نجمة واحدة» لم نكن نرى أن هناك ما يبرر دخول بيوتهم… الغريب في الأمر أن المشروم، كان عندنا في شمال السودان النوبي طعاما للفقراء، يستخدمونه كبديل للحم، والدليل على النظرة الدونية إلى المشروم هو أنه يسمى باللغة النوبية «كجن قور» أي «علف الحمير»، وبعض أنواعه سامة تضعها في فمك فتلسعك كما عقرب وتسبب نوبات إسهال حتى للبهائم.. ودار الزمان وصار أبو الجعافر يجاري المتحضرين ويطلب الوجبات بالمشروم في المطاعم، متناسيا أنه -في عرف أهله- انحدر إلى مستوى الحمير.

jafabbas19@gmail.com

تعليق واحد

  1. المغتربيين خلاص نسوا السودان والعيش فيه ؟واصبحت هي فقط ذكرة حلوة الماضي الكان؟كل مغترب سافر وكافح وجاع من اجل ان يبني بيت او عمارة اصبح الان لايهتم يحضر كل بعد عدة سنوات ليقضي شهر او اسبوع في السودان ثم يذهب من حيث اتي؟لماذا؟المغتربين المثقفين اصبحوا لايهتموا بالبلد وشوفوا الانتخابات لماذا لم يقدموا ويرشحوا لها كل حسب منطقته لماذا؟شوفوا هؤلاء الذين ترشحوا لرئاسة الجمهورية فيهم خريج الابتدائية والامي؟ لايوجد طموح لدي المغتربين المثقفين فقط عيش اليوم باليوم وهو همهم الاكبر وهم تعودوا عليه وخلاص