منصور الصويم

قصة موت شاب مثقف


القصة دارت أحداثها – الحقيقية – في أرياف السودان الكبير، وتنقل – رغم مأساتها – جانبا من مأزق المثقف (المتعلم) السوداني، وتوضح وإن جاء ذلك في ثنايا سلوك شخصي؛ تلك الأزمة العميقة التي لازمت الصفوة السودانية في تواصلها مع محيطها المجتمعي إثر النقلة المعرفية التي أحدثها التعليم الحديث بين أوساط الكثيرين منذ بداياته الانتشارية الأولى في أواسط الأربعينيات من القرن الماضي وحتى هذه اللحظة الفارقة في عمر هذه الأمة، فالقصة – رغم بساطتها – تبين تلك الحالة الفصامية التي عاشها ويعايشها الكثير من المثقفين والمتعلمين السودانيين وتخلق مساحة وفراغا كبيرا بينهم وبين أقرب الناس إليهم وتجعلهم يدورون في مجال مفرغ بمعنى الكلمة، لا يضيف شيئا لمجتمعاتهم سوى تعقيدها وتأخيرها أكثر.

أحداث القصة – الحقيقية – دارت في منتصف سبعينيات القرن الماضي في واحدة من تلك المدن السودانية المتريفة التي بدأت بالانبثاق حديثا، وبطلاها ابنا عم: الأول شاءت ظروف تنشئته ومولده في المدنية الجديدة أن يلتحق بإحدى مدارسها وأن يتفوق بشكل مدهش إلا أن التحق بالجامعة (الخرطوم)، بينما شاء حظ الآخر العاثر أن يولد في القرية ولظروف خارجة عن إرادته لم يتوفر على أي شكل من أشكال التعليم سوى (الخلوة)، الاثنان جمعتهما المدينة ذلك العام – عام القتل – حين عاد الأول في إحدى إجازاته الدراسية، وجاء الثاني بحثا عن عمل وظروف حياة أفضل توفرها هذه المدينة.

سكنا بيتا واحدا، وصارا متلازمين في الغرفة (الصالون) رغما عن تنافرهما البائن، ثم أصبحا متلازمين أكثر في مكان عمل والد الأول – طالب الجامعة – بحكم أن ابن العم التحق تلقائيا بدكان عمه عسى أن يحقق نجاحا في التجارة بعد أن فاته قطار التعليم، والأب يُلزم الأول بقضاء أغلب أيام إجازته معه في الدكان بعيدا عن من يصفهم بصعاليك المدينة.. إذن تنافر كبير وضح جليا بين الاثنين، غذاه سلوك متعالي وافترائي من الأول وصمت حانق متنام من جانب الثاني.

تقول القصة أن الأول ما فوت مناسبة تجعله يذكر الثاني بجهله وبالفارق التعليمي بينهما. فكل محادثة بينهما إما متبوعة بـ (يا جاهل) أو مسبوقة بـ (يا أُمي)، فإذا طلب منه مناولته كتابا قربه مثلا قال له: هات الكتاب يا جهلول، عارف ليو شنو. وإذا أخطأ في حساب بعض الأشياء، ذكره بجدول الضرب: دا اسمه حاصل ضرب تسعة في تمانية يا أمي. وهكذا.

القصة تنتهي ذات ليل وهما عائدان من السينما، والأول يضحك على الثاني الذي لم يفهم أحداث الفيلم جيدا، بيد أنه طبق أحد مشاهده بحذافيره حين أخرج سكينه وطعن الأول ثماني طعنات سريعات نقلته إلى العالم الآخر.

مات الأول وسجن الثاني، ولم يتعلم الناس شيئا.