أبشر الماحي الصائم

عندما استنفدت قمصاني


لا تعرف بمن تحتفي.. بمقدم البرنامج صاحب المراجعات الأخ الأستاذ الطاهر حسن التوم، أم بالسفير الضيف هارون؟! هكذا تجلت قناة النيل الأزرق وتفوقت على نفسها، وهي تستضيف سفيرنا السابق بواشنطن السيد خضر هارون.. في حلقات قل أن تجد لها نديدا ونظيرا في هرجلة فضائيات هذه الأيام.. واحة ظليلة وارفة المعاني والدلالات وسط صحراء الجدب الفكري والتهريج السياسي.. (وحابين ناخد رأيكم) !! أعظم ما في هذه الحلقات المتسلسلة هو أن المضيف مقدم البرنامج لم يفسد البرنامج بالمداخلات والتقاطعات غير المبررة كما يفعل مهرجو فضائيات هذه الأيام.

فطالما أن الحوار يمضي في وجهته المرسومة لم يعد هناك مسوغ لقطع هذا التدفق المترع.. من كادر دبلوماسي مرتب حاضر الذهن يستخدم عباراته بعناية فائقة ويستدعي الأحداث بترتيب وتركيب باهر لدرجة الدهشة والإعجاب.. وفي المقابل أتصور أن مقدم البرنامج قد بلغ مرحلة من النضج مما يجعله لا يعاني أزمة ثقة.. بمعنى أن كثيراً من مقدمي البرامج يحتاجون إلى استعراض معلوماتهم ومهاراتهم وعضلاتهم الفكرية بتدخلاتهم غير المبررة لتثبيت صورهم وتقديم أنفسهم للمشاهد.. فتجد الواحد كما لو أنه يستضيف نفسه وهو يسأل ويجيب في وقت واحد.. وذلك لأنه لا يزال يحتاج لعمليات ترسيخ وتوطين نفسه في ذهن المشاهد.. أتصور أن الأخ الطاهر قد تجاوز هذه المرحلة عبر الخدمة البرامجية الطويلة الممتازة، فتجده لا يعاني أزمة تسليط الضوء على نفسه.. وعلى أي حال هنالك من هو أسوأ من ذلك بكثير.. وأعني بعض الذين لا يجيدون حتى تقديم أنفسهم.. أو أنهم يقدمونها بصورة مشوهة بل وأحيانا مقززة كما هي نماذج بعض المذيعات.. فضلا عن الذين يجتهدون في تعويض خسارة المعاني بالمباني.. أعني تعويض خسارة المخبر بتضخيم المظهر فتجدهم يبالغون في اللبس والمكياج!!

لتعلم عزيزي البرامجي أن المشاهد لا ينتظر طلتك البهية ليحتفل بها، بل إنما ينتظر المادة التي تقدمها.. وترهقنا كثيرا، والحال هذه، تلك المطاولات والتقدمات التي (تتور النفس) قبل الولوج في لب الموضوع.. فانظروا – يا رعاكم الله – إلى نشرات وبرامج قنوات يديرها برامجيون محترفون من أمثال البرامجي العربي الأشهر أحمد منصور بقناة الجزيرة.. تجده يوظف كل الوقت والأضواء للضيف الذي محور الحلقة والاهتمام والاحتفال لدرجة أن التقدمة لا تتجاوز نصف دقيقة.. كأن يقول السلام عليكم هذه حلقة جديدة.. يا حليلنا.. أنظروا إلى قيدوماتنا، فإنها في كثير من الأحيان تجعلك في مقام الكفر بالوطن.. لتنضم مباشرة (لجماعة التفكير في الهجرة) والهروب.. الذي لا يكلفك في هذه الحالة سوى أن تضغط على الرموت قبل أن تصاب بمرض الضغط.. لتجد نفسك في جزيرة العرب أو في شبه الجزر البريطانية مع البي بي سي.. و (والعجب سبعين كان تفك الحد) أعني تلك المذيعة عندما لم تكن في إجازة.. حكاية تصلح لها تراجيديا (ديك العدة) !! وهي تطل كما الهرة في أمشير أو آزار كما في سجل مفردات الروائية أحلام مستغانمي !!

* تجدني أحترم كل تجارب الإخوة الصحفيين الذين نزلوا إلى الفضائيات لتقديم برامج حوارية.. خالد ساتي والظافر وصولا إلى الحبيب ضياء الدين بلال.. كلها تستحق الاحترام والتقدير.. غير أن (الصورة قد اكتملت) في تجارب البرامجي الطاهر حسن التوم الاحترافية !!

مخرج.. لي تجربة شحيحة في هذا المضمار مع الأخ الأستاذ عابد سيد أحمد بقناة الخرطوم.. فلما رأيت الناس في الصباح يعلقون على قمصاني وليس على اجتهاداتي واطروحاتي.. وبالأحرى لما استنفدت كل قمصاني.. خرجت ولم أعقب مدركاً أن (الشغلة ما شغلتنا).. وأنا أكتب مقالا راتبا لعقدين من الزمان ولم يسألني أحد يوما (ماذا كنت تلبس وأنت تكتب) !! تصبحون على خير..