عثمان أحمد..الانقاذ: هزيمة الاستراتيجيات بالتكتيك
ونحن في سنين الجامعة وبدايات التخرج كان احد الاصدقاء من زملاء الجامعة عندما يعجب باحدى الفتيات ويرغب في زيارتهم بالمنزل يستخدم تكتيكا” متفردا ، من فرط خوف صديقنا من اهل الفتاة كان يحاول صنع شرعية لزيارته لمنزل محبوبته المفترضة فيقوم بالتقرب من والدها او اخوها حسب ما تيسر مما يمنحه شرعية ومبررا مقبولا على الدوام لزيارة المنزل ، المشكلة في هذا التكتيك ان صديقنا هذا كان لسانه طلقا وكان فوق ذلك خفيف الظل مما يؤدي الي تطور العلاقة مع والد او اخ الفتاة لتصبح هي العلاقة الرئيسية والوحيدة للاسف في غالب الاحيان ، تضمحل علاقة صديقنا بالفتاة وتزدهر علاقته بوالدها ، غالبا ما كنا نضحك على هذه الصديق فتكتيكه المتبع كان في غالب الامر هو السبب الرئيسي في افشال خطته الاستراتيجية بعيدة المدى للفوز بقلب الفتاة .
في بدايات العهد بحكومة الانقاذ الوطني قام النظام بتعيين موظفين من اصحاب الولاء واعضاء التنظيم الخلص في وظائف الخدمة المدنية المختلفة ، وفي مرات كثيرة جدا يكون هؤلاء الموظفين في درجات وظيفية وسطى او متدنية احيانا لعامل العمر مثلا او لغيره ، ولكن يتمتع هؤلاء الموظفين بنفوذ عالي ، اعلى كثيرا من مدير المؤسسة وكبار موظفيها واللذين يتمتعون بخبرة تراكمية طويلة ووصلوا الى هذا المنصب بعد تدرج وظيفي خلال سنوات ، بخلاف الاحباط الكبير وانهيار قيمة كالنزاهة والامانة والجد والمثابرة اللتي تنتقل الي اللاحقين فان جيلا جديدا من المنافقين قد ظهر داخل دواوين الخدمة المدنية لكن الاهم واللذي احاول التركيز عليه هو التدهور المريع واللذي يقارب الانهيار للخدمة المدنية ، وحدث نفسك عن اي نوع من الخدمات العامة وقارنه باي مرحلة سابقة .
الاستراتيجية المطلوبة والتي اعلنت لتبرير التغييرات اعلاه هي تطوير الخدمة المدنية و بعث الروح الثورية فيها مضافا الي تمكين السلطة الجديدة ، التكتيك المتبع في تعيين موظفين من اصحاب الولاء بنفوذ عالي مع عدم احترام هرم توزيع السلطة في الخدمة المدنية واللذي هو نتاج طبيعي لعهود من التطور ، فظهر موظفون كبار بدون صلاحيات حقيقية و صغار موظفين بسلطة عالية يستطيع من خلالها التأثير على هذا المدير و كبار الموظفين او تمرير قراراته ، اذن هذا تكتيك ادى لانهيار الاستراتيجية المعلنة وادى بالنهاية لظهور قيم جديدة سلبية واساليب ملتوية ، وكعادة الانسان فقد استغل البعض هذه الحالة الغامضة وغير الشفافة في توزيع السلطة الحقيقة وادّعو لانفسهم نسبا الى التنظيم او الي مراكز السلطة والقوة المختلفة مما منحهم نفوذا وسلطات استفادوا منها او افادوا اخرين بصورة غير شرعية فالامر كلو يطبخ خارج اطر الخدمة المدنية المعروفة ، اذا هذا خطة قصيرة المدى تنفيذها ادى الى ضياع الاهداف النهائية بعيدة المدى بل وانتج حصيلة بالغة السوء.
المثال الآخر هو التكتيك المتبع في منح الوحدات الحكومية المختلفة صلاحية الصرف من مواردها المالية مباشرة قبل المرور بكل اجراءات الصرف على الميزانية وولاية وزارة المالية عليها ، وكذلك السماح لها بدخل ايرادي ،، الاستراتيجية المطلوبة والهدف الكبير هو تسريع الاجراءات وعدم تقييد الادارات المختلفة في الاجراءات البيروقراطية ، مرة اخرى الهدف جميل ولكن يوجد تعالى فى احترام مبررات هذه الاجراءات البيروقراطية ، استخدام هذا التكتيك في منح الصلاحيات للادارات المختلفة ادى لضياع الاستراتيجية بل وادى الي اسوأ من ذلك وهو اضمحلال ولاية وزارة المالية وبالتالي الدولة على المال العام ومن المؤكد ان زيادة نسب الفساد و وعدم قدرة الدولة على تنفيذ قراراتها واستقلال الجهات ذات الايرادات الكبيرة بنفسها ادى الي كثير من المساوئ ودونكم ان الحكومة نفسها تجد صعوبة شديدة في التراجع عن سياسة التجنيب واللذي تسعى الدولة بكل ما اوتيت لتازله بينما يكسب هو احيانا كثيرة .
والتأثير الاعمق لهذه السياسة تدهور قدرة الدولة على التحكم في تحديد المشاريع التنمية ذات الاولوية ، فالميزانية في باب من ابوابها هي مشاريع عمل يتم التحكم فيها من خلال التحكم في بنود صرف الميزانية ، بينما تستطيع الوحدات المختلفة تحديد اولوياتها وتنفيذ مشاريعها ما دامت قادرة على توفير الايرادات وصرفها.
كذلك فان استقلال الوحدات الايرادية بمواردها مكنها من صنع فوارق كبيرة للعاملين في وحدات مختلفة لجهاز الدولة والحاصلين على نفس المؤهل وهو امر من الخطورة بمكان في حصيلة الاداء العام للموظفين وفي الخدمات المقدمة للمواطنين وغيرهم فضلا عن تأثيره على الانتاج القومي العام وكذلك يساهم في نشر الاساليب الملتوية للتوظيف من حيث اتجاه الغالبية للتوظيف في المؤسسات ذات المداخيل الاعلى بل ان تأثيره يمتد الى الامن القومى من حيث تكريسه للفوارق الاجتماعية على المدى البعيد ، اذن هاهنا ايضا يتسبب التكتيك الخاطئ في هزيمة الاستراتيجية بل ويأتي بنتائج عكسية وكارثية .
من الدروس اللتي يمكن استخلاصها ان هذه الممارسات تتم عادة في الخفاء فالسلطة الممنوحة لموظف في في درجة وظيفية وسيطة سلطة حقيقية وان لم تكن معلنة في هيكل المؤسسة والاحتفاظ بالايرادات والتصرف فيها خارج ولاية وزارة المالية لا يتم عادة وفق نظم محاسبية معروفة ولا يتم الاعلان عن كيفية صرفها بل وفي غالب الاحيان يتم نكرانها ليس لشئ سوى انها تخالف الاجراءات الوجدان السليم.
اذا امعنا النظر فسنجد كثير من الامثلة للاهداف الكبيرة واللتى تمت هزيمتها من خلال الاجراءات الآنية واللتي تخالف المبادئ اللتي تواطأ عليها الناس بل وفي كثير من الاحيان تسببت في نتائج كارثية لم تكن في الحسبان ، وعلى ما يبدو للوهلة الاولى ان هذه التجارب تجارب قديمة وعفى عليها الزمن الا انه من المؤكد ان العبرة من دراستها ليست محدودة بوقت فضلا عن بعضها لا زال يحدث حتى الان .
خلاصة القول ان الحكمة هي ضالة المؤمن وان التعالي على التجارب الانسانية هو محض ضرب من مغامرة غالبا ما تكون نتائجها سلبية وان القرارات الثورية يجب ان تبنى على هذه القاعدة واساسها العدل ، ثم ان نتائج هذه التجارب السابقة ليست سوى مزيد من التأكيد لقيم راسخة ، فالغايات النبيلة لا يجب الوصول اليها باساليب ملتوية ، كذلك ان الاحلام الجميلة بل وحتى الاهداف الكبرى لا يمكن الوصول اليها الا بالتخطيط السليم ومن ثم متابعة تنفيذ هذه الخطط والاهم من كل ذلك ان منظومة القيم هي منظومة متكاملة وان التعدي على اي من عناصر هذه المنظومة كفيل باختلال النظام ككل ، فاختلال قيمة واحدة كالعدل ادت مباشرة الى اختلال قيم اخرى كالنزاهة والصدق والامانة فالانسان بطبعه ليس كتلة صماء انما كائن مستجيب للمتغيرات من حوله وكلما طال العهد بالناس في ظل منظومة قيم مختلة فمن الطبيعي ان تتحول هذه المنظومة المختلة الى معايير اخلاقية ومرجعية جديدة ،ان الضرر اللذي يصيب الوطن والخسائر الناتجة من اختلال منظومة القيم لا يمكن قياسها وهو امر تبدو شواهده وان كنا لا نتمنى حدوثه على الاطلاق.