هذا رجب فأين المسلمون؟
(1) دخل شهر رجب الخير أسبوعه الثاني، وربوع العالم الإسلامي في حالة من هوس القتل والدمار لم تشهدها ربوع هذه المنطقة منذ أيام عاد وثمود، سوى أن التدمير ذاتي هذه المرة. وبما أن رجب هو أول الأشهر الحرم التي كانت محترمة مرعية حتى عند عرب الجاهلية، فقد كان أولى بمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يكفوا فيها أذاهم عن بني آدم، خاصة غير المقاتلين من النساء والأطفال والمدنيين العزل. ولكن كثيراً من «أنصار الله» وأعوان «أمير المؤمنين» لا يوفرون هذه الأيام براً ولا فاجراً. ويقيني أن كثيرين منهم لم يسمعوا بشهر رجب ولا يدرون أدخل أم لا.
(2) جاء في صحيح التنزيل: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم». وكانت حرمة هذه الشهور هي من آخر ما ذكر به النبي الكريم من آمن به في خطبة حجة الوداع المشهودة: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.» لاحظ دقة التحديد حتى لا يترك أي مجال للمتأولين.
(3) لا نلوم أولئك الذين لا يعرفون الفرق بين «رجب» و»فيفريه»، ولا يميزون بين مقاتل ومدني، فهم في ضلالهم سادرون. ولكن ما بال من زعموا أنهم خرجوا جهاداً في سبيل الله الذي حرم رجب وبقية الأشهر الحرم، وجعل الحرب فيها حرباً عليه سبحانه وتعالى: ألا يتقون ولا يرعوون؟ لماذا لا تذكر ألسنتهم الأشهر الحرم، وهي تمر عليهم عاماً بعد عام وهم في عدوان مقيم على الأبرياء؟ بل إن بعضهم يختار شهر رمضان أو يوم الجمعة للعدوان على بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فتفتك قنابلهم بالركع السجد بين يدي جبار السموات والأرض، وفي بيته وتحت حماه!! فأي سماء تظل مثل هؤلاء، وأي أرض تقلهم؟ وبأي لسان يجرؤون على مخاصمة ضحاياهم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها؟
(4) قد يحتج المقاتلون بأنهم يردون العدوان، وهو جائز لقوله تعالى: «الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص». ولكن أضعف الإيمان كان أن يبدأ من في قلبه مثقال ذرة من إيمان وشفقة على الأبرياء بالدعوة لهدنة شاملة بين يدي الأشهر الحرم. فإن رفض خصمه كان معذوراً وفي حل من أمره. ولنتذكر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحترم الهدنة مع المشركين، وهم من هم في سبقهم بالعدوان وإخراج المؤمنين من ديارهم وبدأوهم أول مرة.
(5) لعله من المفيد في أيام البربرية هذه أن نذكر أن العرب كانوا، حتى في الجاهلية، في قمة التحضر في السلوك الإنساني، كما يدل على ذلك احترامهم للعهود والمواثيق والحرمات والعرف. فكما جاء في الروايات، إن الرجل كان يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يعرض له. وكان مشركو مكة يحترمون عرف الجوار، فلم يتعرضوا للنبي وأسرته حين كان في جوار عبدالمطلب أو المطعم بن عدي. وقد أكد الإسلام على هذا السلوك المتحضر وشرع له وعززه وشدد على احترامه ووسع مجاله، حين حرم التعرض للأطفال والنساء والمسالمين ورجال الدين وأماكن العبادة، وحتى الشجر والحيوان. فأين ذلك من قوم يدعون الإيمان ويقومون بذبح من جاء لمعاونة الأبرياء؟
(6) ما يميز الساحة العربية هذه الأيام هو أننا أبعد ما نكون عن التحضر. فالأنظمة العربية لا ترعى حرمة لطفل أو امرأة، ولا تحترم حتى القوانين التي تسنها محرمة للتعذيب والعدوان على الأبرياء. فهي تأخذ البريء بالمذنب، والحاضر بالغائب، وتتصرف كالوحوش، قهراً وتعذيباً. أما قادة الرأي في الأمة من مفكرين ورجال دين وإعلام، فهم شركاء في الإثم، لا ينكرون منكراً ولا يقولون حقاً. بل إن كثيراً منهم يبررون للإثم والعدوان ويدعون إلى المنكر وينهون عن المعروف، نسوا الله فنسيهم.
(7) ابتدعت «الجاهلية» المعاصرة بدورها قيماً ومواثيق لرعاية القيم الإنسانية، بدءاً بمواثيق جنيف حول قواعد الحرب، وانتهاءً بمواثيق حقوق الإنسان. وكما جاء عنه صلى الله وعليه وسلم في مقام آخر، نحن أحق بهذا منهم. وكان من المفترض أن تكون منطقتنا أكثر مناطق العالم تحضراً واحتراماً لحقوق الإنسان وقواعد الحرب بسبب تاريخها وقيمها الراسخة. ولكن للأسف فإن حكوماتنا أشبه بعصابات المافيا، ومن يسمون أنفسهم المجاهدين هم أقرب إلى المغول، بل إلى الوحوش المفترسة، منهم بالسلف الصالح ممن كانوا قدوة في الوقوف عند الحرمات واحترام المواثيق. بل إن حكوماتنا وجماعاتنا السياسية تعتبر المطالبة باحترام حقوق مواطنيها وكرامتهم «مؤامرة أجنبية»!!
(8) يفرض علينا هذا أن نشهد ـ من مقام ومسؤولية «لتكونوا شهداء على الناس»- بأنهم كاذبون. فكيف يكون الإنكار على انتهاكات حقوق الإنسان العربي مؤامرة، ولا يكون العدوان على المدنيين المسالمين، بالقصف والقتل والتعذيب والتشريد والتجويع هو المؤامرة الحقيقية على الدين والعروبة والإنسانية؟ أليس من العار أن يضطر مئات الآلاف من العرب لركوب قوارب الموت هرباً إلى شواطئ «التآمر» الأجنبي، بعد أن لفظتهم أوطانهم، ولم تسعهم عشرات الآلاف من الأميال المربعة من المحيط إلى الخليج، ومن الخليج إلى المحيط وقيادات الفكر في صمت دونه صمت من مات غرقاً؟ هل هذه أمة تستحق أن تعيش، أم تستحق أن يستبدل الله قوماً غيرهم ثم لا يكونون أمثالهم؟
(9) مسؤولية قادة الفكر هي الأكبر، لأنهم من يسوغ لهذه البربرية ويبشر بها، مبررين للأنظمة كبائرها بحجج عرجاء، أبرزها إن المعارضة هي شر مكاناً. يتناسى هؤلاء أن بربرية الأنظمة هي علة الظواهر الشاذة التي شهدناها، إذ أنها سبقت ظهور المعارضات المسلحة. ووقتها كانت نفس هذه الأبواق تبرر بربرية الأنظمة بممانعتها، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فقد كذبوا وقتها وهم اليوم أكذب. ولا يمكن أن نتقدم خطوة على طريق التحضر وقيادات الفكر بهذا المستوى من الإفلاس الأخلاقي والعوز الفكري. ولتكن البداية بأن نحترم ما بقي من رجب، فنتوقف فيه عن القتل.
ناديت اذناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادى نسال اللة العافية