رسائل إلى زينب 2
عدت متأخرا، النهار كان طويلا ومملا والليل كان بطيئا وشاقا، ولأول مرة أتوه في أحياء أم درمان البعيدة، متخبطا من حارة إلى أخرى ومن زقاق إلى آخر حتى تخلصت من مسنة ثرثارة نسيت أثر بيتها وسكة روحها ودرب الحياة. وأنا ألج البيت دعوت ربي أن يكون الماء متدفقا حتى أستحم وأزيح عرق هذا اليوم الثقيل. استجاب ربي، أحسست باليمن وتمددت على فراشي متيحا لجسمي بعض الراحة. ربما غفوت قليلا، لكني بعد ساعة تقريبا أدخلت يدي أسفل السرير وسحبت الصندوق الحديدي الذي وجدته مُلقى في مرسى الموردة ليل الأمس؛ أخرجت منه كيس البلاستيك وفردت أوراق الرسائل متخيرا الرسالة الثانية:
“يا زينب، مضت سنة، اثنتان أو ثلاث وأنا أفتش عنك بين وجوه الحاضرات في منتديات وفعاليات الخرطوم الثقافية، وبين أوراق الصحف اليومية، وعلى حوائط أصدقائي وأصدقائهم في الفيسبوك، وبين نغمات تغريداتهم في تويتر، وفي أثير الإذاعة وحوارات الفضائيات.. في كل مكان بحثت عنك؛ في زحمة المواصلات، الطرقات والأسواق، على شواطئ النيلين، وعلى عشب الحدائق النابتة بعشوائية في أنحاء المدينة. تبخرت، لم يتبق منك إلا ذكرى وجه غاضب يحدق بعينين حزينتين غائبتين، صورة غائمة سكنتني وأخذت تناوشني بين الفينة والأخرى، أغيب في الحياة الكادحة فتلوح أمامي فجأة، ليست كالضباب أو الحلم أو البخار؛ كأنها وخز الدبابيس تنقض عليّ، في أي مكان وزمان، بين الأصدقاء والأهل وفي رحلات ذاتي الغائرة، تشكني دبابيس صورتك/ذكراك فأقفز كالملتاع وأتلفت هل أنت هنا؟ هل مررت قريبا من هنا؟ هل أراك مرة أخرى ولو في عبور حالم؟
يا زينب من قال إن الإنترنت نعمة؟ هبة الله لعباده العاشقين؟ مشاركة لحملة ما أوصلني بها أحد الأصدقاء الافتراضيين جمعتني بك مرة أخرى، صورتك تتصدر الإعلان، صبية صغيرة تحتضنك وأنت تضحكين في بهجة، أحسست بالانتصار لانتصاركن في تلك القضية، تعاطفت مع الصبية المبتسمة وعشقت منقذتها أكثر، أنت يا زينب”.
ربما نمت والأوراق بين يدي، وربما حلمت بزينب وعاشقها، لكني في العموم نمت نوما عميقا ولولا رنين الموبايل المتصل لما استيقظت. تأخرت كثيرا على إحدى زبوناتي من المعلمات ولابد أنني أهدرت وقت حصتها الأولى، رددت عليها بتكاسل وأخبرتها بأنني في الطريق ولن أتأخر أكثر من عشر دقائق أخرى. خرجت في صباح جديد شمسه تلهب الأبدان بصهد من نار.
(صحيفة اليوم التالي)