داليا الياس

الخيط الرفيع

ثمة خيط رفيع لا يرى بالعين المجردة يفصل بين الكثير من الأشياء والمعاني! خيط يمكنك أن تحسه، أو أن تستشعره وتدركه وفق مستوى وعيك، وإدراكك لماهية التفاصيل، والمنهج الذي قامت عليه حياتك، وخلفيتك التربوية، ونظرتك للأمور بحسب تجاربك وخبراتك المكتسبة.
هذا الخيط الرفيع.. يؤثر بشكل أو بآخر في انطباع الآخرين عنك.. وفهمهم لشخصيتك.. وتفسيرهم لسلوكك ودوافعك وتصرفاتك.
وبالتالي يمتد تأثيره لردود أفعالهم، وترتيبهم لك في قوائم حياواتهم، وتصنيفهم لنوعك الإنساني ودرجة إيجابيتك.
إنه الخيط الذي يفصل بين الصراحة والوقاحة، والطيبة والسذاجة، والكبرياء والغرور، والبخل والتدبير، والشجاعة والحماقة، والشك والغيرة، والإعجاب والحسد.. وحتى بين الصمت والتأمل!
الكثير من الخيوط الخفية تتقاطع في حياواتنا.. إما تحدث إتصالاً يشد الأشياء بعضها البعض بكل رفق.. أو تلتف حول نفسها وتتشابك وتستحيل عُقداً مزمنة يستحيل أو يصعب حلها، وتحيل أيامنا لمعاناة.
بعض تلك الخيوط واهنة وضعيفة، لا يصمد طويلاً بوجه أهوائنا الشخصية أو الظروف التي تعبر أيامنا ونتعرض لها باستمرار، وهو ما يسلمنا للضعف والانهزام والألم.. وبعضها قوي يمكنه أن يحتمل تناقضاتنا الداخلية ويبقى برغمها محكماً قبضته على التفاصيل ويحقق لنا الحد الأدنى من التوازن !
كيف يمكننا أن نجعل ذلك الخيط الرفيع مشدوداً بدواخلنا دون أن ينقطع؟ يتمتع بطبيعة خاصة ويجمع ما بين المرونة والقوة.. ويساهم بفاعلية في إبراز الجوانب الدبلوماسية اللبقة في شخصياتنا.. فنعرف كيف نفصل بين الأشياء ونمارس أجمل ما يكون من سلوك يجعل منا أناساً محبوبين ومطلوبين، يلتف الآخرون حولنا في مودة ودون نفور، فقط لأننا رأينا ذلك الخيط وجعلناه مشدوداً بأعماقنا ليقينا شر الصلف والافتراء.. ويسمح للآخرين بالتمتع بكامل إنسانيتهم وحريتهم وتقديرنا لهم!
من قال إن الشجاعة والجرأة والموضوعية والمهنية تتبدى في جرح مشاعر الآخرين والإغلاظ عليهم أو السخرية منهم والتنكيل بهم وتعمد إحراجهم؟!
ومن قال إن الوضوح السافر جزء من شفافيتنا وموضوعيتنا ودورنا الإصلاحي؟
ومن منا دون أخطاء حتى نعمد للعب دور المرشدين والقضاة والجلادين وننصب من حولنا على جدار التوجيه والعتاب والتأنيب والانتقاد؟
نحن يا سادتي زمرة من النفوس الغريبة.. نتعامى عن عيوبنا ونبرع في التقاط سقطات الآخرين وأخطائهم.. ولو أننا تذكرنا ذلك الخيط الرفيع ما بين الفظاظة والكياسة لرحمنا أنفسنا من أمراض العظمة والسيطرة ورحمنا الآخرين من أعباء احتمالنا كاظمين غيظهم والحنق مرجل يغلي بأعماقهم.
هكذا ينبت الخيط الرفيع ما بين الاحترام والاحتمال.. فليس من يصمت على ممارساتنا المريضة إنسان يقدرنا ويحترم رأينا وينصاع له من باب الإيمان والاقتناع!!
هو فقط إنسان يتمتع بحلم كبير وصبر جميل.. ولم ينقطع لديه بعد ذلكم الخيط الرفيع الذي يفصل ما بين التغاضي والتراضي.. أو بين التجاهل والتفاعل.. أو بين الاحترام والتزام الصمت للتخطيط للانتقام!
تلويح:
لا تحسبوا صمتي انهزاماً.. إنني أتداول مخططاتي الجديدة مع شياطيني.