معالم النظام الخالف القادم .. هوادي الشيخ “الترابي” في الفقه السياسي (1)
تبتدر (المجهر) نشر مراجعات فكرية للشيخ “حسن الترابي” في الفقه السياسي ورؤيته للنظام الخالف الذي أثار جدلاً واسعاً في الساحة الداخلية والخارجية بعد سلسلة تجارب سياسية منذ جبهة الميثاق الإسلامي والجبهة الإسلامية القومية، وضع خلالها معالم المشروع الحضاري. وتفتح (المجهر) بعد نشرها لهذه السلسلة المتميزة بيراع الشيخ “الترابي”- دون تدخل تحريري من إدارة الصحيفة– الباب واسعاً للمفكرين والمستنيرين للنقاش حول هذه الرؤى المطروحة. وتشير الصحيفة إلى أنها تهدف من ذلك لتقديم خدمة راقية في المجال الفكري.
إن الإسلام دين ودولة لا تنفصم فيه دواعي الدين التي تنبعث مما يجده المسلم في نفسه من دوافع التدين التي تحيط به من تلقاء المجتمع الذي يحيطه بالتذكير ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، أو عن أوامر الدين ونواهيه التي تبسطها عليه الدولة وتضعها عليه برقابة وثيقة وجزاءات فعالة. ذلك كله في دين الإسلام يعود إلى أصل واحد وينطلق من ذات القاعدة، ولكن تطرأ على حياة المسلمين أحوال يتعطل فيها السلطان من أن يكون إسلامياً، ولا يسعف المرء المسلم إلا ضميره ووجدانه وقد ينحرف المجتمع أيضاً من أن يكون إسلامياً.
أما دواعي الدين التي يتحرك بها المسلم من تلقاء وجدانه المؤمن فمنها أولاً حبه لله سبحانه وتعالى. فالمسلم يجد نفسه متعلقاً بأشياء الدنيا ويزين له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وغير ذلك من متاع الدنيا، ولكن المسلم يصل كل ذلك بالله سبحانه وتعالى ويجعل حبه لمتاع الدنيا ولجمالها وزينتها فرعاً من حبه لله. فإذا التزم طاعة الله فإنما يلتزمها لأول الاعتبار حباً لله، وابتغاء لمرضاته كما يبتغي المرء مرضاة حبيبه بطاعة قوله وأمره وإشارته.
المسلم يعلم أن وجوده ذاته عائد لله، وأن كل النعماء التي تصله حتى من أسباب الدنيا أصلها لله- سبحانه وتعالى، وأن مطعمه ومشربه ومتنفسه وصحته ووجوده وقيامه بالله، فلا يكاد يعرف منتهى لشكر الله. حتى الأنبياء الكرام الذين يديمون صالح الأعمال كانوا يستشعرون أنهم لن يفوا أبداً بحق الشكر لله – سبحانه وتعالى. ولما كان الناس يستنكرون على رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قيامه ويشفقون عليه من الألم الذي من جراء ذلك القيام، كان يرد عليهم: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولو أنه قام الليل كله وصام النهار كله لما وفى بشيء من حق شكره نعماء الله – سبحانه.
ثم إن المسلم يتحرك بما يجد في ضميره من استشعار رقابة الله والخوف من عذابه ورجاء رحمته، فإن رحمة الله لواسعة وإن جنته لعريضة، وما هي إلا تعبير عن رحمته– سبحانه وتعالى– وإن رضوان الله الأكبر الذي يتفضل به على الناس في الآخرة من أجر ما يدفع المسلم للعمل الصالح، وإن لخوف المسلم من غضب الله وعذابه الذي لا يضاهيه عذاب الدنيا من أعظم ما يزع عن العمل السيئ.
تلك هي وازعات الدين الثابتة التي يلقيها المرء في الوجدان، ولو أن السلطان المسلم قد سقط أو زال ولو أن المجتمع كله قد انحرف، بل لو أن المجتمع كله قد انتصب فتنة على المسلم، وأن السلطان ارتد عليه كذلك يقهره إلا يتدين لأسعف المسلم من بعد ذلك كله وجدانه المتدين. وهذا هو السبب الذي يفسر خلود الدين في التاريخ فإن الدول قد جعلها الله سبحانه وتعالى أقداراً دائرة تقوم وتسقط، والمجتمعات تنحرف وتستقيم، ولكن الذي يجعل الدين أمراً خالداً يثبت بالرغم من الفتنة وبالرغم من الاضطهاد وبالرغم من سقوط الدول وبالرغم من اغتراب المسلم في مجتمع ليس بمسلم، هذا الخلود وهذا الثبات في وجه كل هذه الظواهر المعاكسة، مرده إلى وازعات الدين التي تقوم في وجدان الفرد المؤمن وما من اعتقاد آخر يقاس إلى الدين. يحلو للناس أن يقايسوا بين الإسلام والاشتراكية أو بينه وبين الديمقراطية أو بينه وبين مذاهب الحياة المختلفة، ولكن كل هذه النظم الوضعية لا ترقى إلى أن تقابل الإسلام من حيث إنه يفضلها لمدى بالغ لشدة أثره على الإنسان إذ يحيطه بدوافع ووازعات أوسع من هذه النظم قاطبة. فما هذه النظم إلا قوانين أو ترتيبات ظاهرية تقام في مجتمع ما وما أن تسقط السلطة التي تؤسسها حتى تتحول الأمور وتزول الظواهر، أما الدين فهو نظام اعتقاد وسلوك وتعامل خالد يبقى مع الإنسان حيثما دار.
الضوابط السلطانية في المجتمع الإسلامي
ولكن الدين لا يتم بهذا الأثر البالغ إلا إذا قام مجتمع من حول المؤمن، وأول وظائف المجتمع أن يكون معيناً للمسلم يعلّمه إذا جهل ويذكّره إذا نسي، ذلك هو واجب المجتمع الأول. ومن واجبات المجتمع كذلك أن يفرض على المسلم بعض الجزاءات– أن ينكر عليه إذا نسي وانحرف وأن يعاقبه بالكلمة الناصحة والزاجرة أو بالكلمة الطيبة إذا استقام. فمن وظائف المجتمع إذاً أن يؤيد الوجدان المسلم أولاً بالتذكير والنصيحة، وثانياً بجزاءات الخير والشر التي يسوس بها أفراده.
ثم ينبغي من بعد هذا وذاك أن تقوم في مجتمع المسلمين دولة وأن يقوم عليهم سلطان. وواجب السلطان الأول فيما يتبادر إلى الحسبان هو أن يبسط القانون ولكن الأولى بالسلطان هو أن يبسط التربية الإسلامية، لأن كثيراً من نظم التربية لا يمكن أن ينظمها المجتمع عفواً ولا يمكن أن تتم بجهد الفرد وحده فلابد من قيام دولة تامة على المسلمين تربيهم لتزكي فيهم الوجدان السليم.
هذا أمر ربما كان المسلمون يستغنون عنه شيئاً في قرونهم الأولى ولكنهم لا يستغنون عنه اليوم أبداً، لأن دولة اليوم بأدواتها العصرية المتمكنة تبسط من وسائل التربية ما لم يتيسر لدولتنا الأولى، ولئن كان كثير من سلف العلماء قد زهدوا في أمر الدولة واستحقروا شأنها ولم يهتموا كثيراً بأن يصلحوا الانحراف الذي طرأ عليها أو يجاهدوا حتى تستقيم الحكومة المسلمة الشرعية بعد حكومات الاستلاب والوراثة، فلعل ذلك لأن شأن الدولة كان يسيراً زهيداً في تلك العهود. لكن الدولة اليوم تكاد تتولى عن مجتمع المسلمين كل وسائل التربية فهي التي تتولى تربية النشء وتعليمه، وهي التي تتولى تذكير الكبار والصغار بأجهزة الاتصال التي تطرقهم ليل نهار بنظام الإعلام الذي يحيط بهم إحاطة وثيقة، وهي التي تؤثر عليهم بنظام المعاش الذي أصبح كل شأنه بيد الدولة إما تنظيماً أو هيمنة كاملة وبنظام المجتمع الذي تتحكم في تكييفه الدولة. فأصبحت الدولة اليوم هي التي تتولى غالب تربية الناس، وعندما يطالب المسلمون أن تقوم عليهم دولة مسلمة فإنهم لا يطالبون لأول اعتبار من أجل القانون وإنما يطالبون من أجل أن تقوم دولة تربيهم وتزكيهم بنظام الإرشاد العام الذي تبسطه عليهم بالقدوة الحسنة التي تقيمها عليهم في الحياة العامة، ثم يطالبون بعد ذلك بالقانون، وفي مجتمع المسلمين يتناصر القانون المسلم والوجدان المسلم لينشئا مجتمعاً صالحاً.
{ قصور القانون وكمال المسؤولية الدينية
عندما بدأت الدعوة للقوانين الإسلامية تظهر قبل قليل انبرى لها بعض المفكرين يريدون أن يطيلوا من أجل تعطيل الشريعة متعللين بضعف فعالية القانون أداة للضبط الاجتماعي وضرورة التربية. ونحن نعلم أن القانون ذو أثر محدود في حياة الناس وأنه إذا فسد جمهور الناس الأعظم فلا حيلة من بعد للقانون، ولكن ذلك لا يغني المجتمع أبداً عن القانون ولو أن معارضي الشريعة كانوا صادقين لما أثاروا تلك التحفظات في وجه القانون الإسلامي، بل عليهم أن يثيروها في وجه كل قانون، وأن يزعموا أن القانون كله ناقص ولا يفي بشيء وأن الناس ينبغي أن يعوّلوا على التربية.
ومهما تكن تلك الحجة فهي أوهى من أن تقام في وجه القوانين الإسلامية التي تحدث أثرها تناصراً مع ما في فطرة الناس ووجدانهم من بقية الدين، وإنما ينجلي القصور في حق القانون الوضعي الذي انفصم عن الأخلاق والدين، وأصبح معوّلاً على محض الأحكام المفروضة والجزاءات المرصودة، ذلك أن القانون لا يحيط إلا بعمومات، ولا تستطيع الدولة أن تفرض على المجتمع قانوناً مفصلاً كاملاً ينظم حياتهم بكل حذافيرها، لأن الدولة بالطبع تقوم بأجهزة محدودة ولابد من أن تقتصر على أمهات الأمور وحدها، وتنظمها بالأحكام العامة وتترك بقية الشؤون عفواً أو إدراجاً في العموم. وقد يتطور مدى الأحكام القانونية فتوضع كلما تكثّفت أجهزة الدولة، لكن المجتمع المسلم يكمل النقص الذي يعتري الدولة من قصور أجهزتها بالأحكام التي تخاطب الوجدان المسلم، كما يكمله بالأعراف والآداب الحسنة وينظم حياة المسلمين في ما وراء القانون. ثم إن الرقابة التي يفرضها القانون على الناس محدودة المدى، أولاً لأن بعض طبقات المجتمع تقوم من فوق القانون ولا يملك القانون أن ينالها برقابته فيضطر في واقع الأمر لأن ينحسر عنها. تلك هي الطبقة التي تتولى تنفيذ القانون وبالطبع لا تنفذه على نفسها إلا كرهاً وفي مجال محدود، وهي إلى هذا المدى في حصانة من وقع القانون، وفضلاً عن ذلك فإن في مستوى الطبقات الدنيا التي يعلو عليها القانون مجالاً واسعاً للاختفاء من القانون، ومثال ذلك في الفساد الإداري حيث يتاح مجال واسع في أن يتخفى الجناة من القانون فلا تصل إليهم رقابته، لأن الأمر ينبني على النجوى بين الراشي والمرتشي ولأن من يريد فساداً إدارياً يعلم كيف يخفيه ولذلك لا تكاد قضايا الفساد الإداري تقوم بيننا إلا قليلاً جداً، فهذه منطقة من الحياة لا يملك القانون إلا أن يقف عندها عاجزاً. وفي حياة الناس عامة مجالات أخرى واسعة لاتقاء القانون ورقابته، فإذا كانت الشرطة هي أداة تلك الرقابة فإنها بالطبع في كل البلاد قاصرة المدى بمواصلاتها المحدودة ورجالها المعدودين، وهي مهما تصنتت على الناس وتسمّعت لا تصل إلا جزءاً محدوداً من حياتهم.
كل هذه المجالات مما ينحسر عنه القانون في واقع التطبيق، فلو وكلنا أمرنا كله للقانون لما وفى القانون بأقل مما نحتاج إليه من ضوابط سلوك الناس، أما في المجتمع المسلم فكل هذه المجالات تقوم فيها رقابة الله– سبحانه وتعالى- التي يستشعرها المرء من حيث إيمانه بإحاطة علم الله، كما تقوم فيها من ثم دواعي الخوف من عذاب الله ورجاء رحمته وحب الله وشكره، وكلها دواعٍ تربي المسلم من تلقاء الباطن فتقوّم سلوكه. أما في الظاهر فإن كل هذه المجالات تشملها رقابة المجتمع– الذي هو أوثق صلة من الدولة بالمسلم الفرد يحفظه ويذكّره ويحيطه بالنصيحة والمراقبة القريبة.
القانون كذلك محدود من حيث جزاءاته.. ماذا يملك القانون ليؤثر على سلوك الناس؟ يفرض عليهم جزاءات سلبية عقابية ولكنه لا يملك أن يجازيهم خيراً إن أحسنوا، ولا أن يثني عليهم أو يكافئهم على كل عمل خير لأن كل أموال الدولة وخيراتها محدودة، ولكن خيرات الله لا تنفد أبداً (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ). إن الله سبحانه وتعالى يؤثر على سلوك عباده بأن يعاقبهم إذا أساءوا وأن يجزيهم إذا أحسنوا، فبالنظر إلى عمل السوء فإن الدولة لا تملك إلا أن تعاقب عليه ولكن الله يعاقب المرء عليه ويجزيه خيراً إن كف عنه، فالله يؤثر على عباده بالمكافأة والعقاب معاً. وثمة مجالات لعمل الخير والمندوب ليست من الواجبات كأن يتصدق الإنسان أو يتبرع من تلقاء نفسه فماذا تملك له الدولة؟ تملك بالعادة أن تضع على صدره النياشين وأن تذكره حسناً، ولكن ذلك لا يغني غنى ملك الله الذي يجزي على كل حسنة مهما تكاثرت الحسنات لأن خزائنه أكثر، بل إن الله يضاعف الجزاء عشراً وسبعين وسبعمائة. فجزاء الله إذاً أوفى من جزاء القانون. وعقاب الله أيضاً أوقع من عقاب القانون لأن القانون لا يملك إلا أن يفرض على الجاني فلا يبالي به. وكثير من الناس يختلسون عشرات الألوف ويحتسبون ذلك أجراً وافياً لكل سنة يقضونها في السجن حتى يقيض الله لهم حاكماً يحتفل بأحد أعياده فيطلق سراحهم. ولكن عقاب الله عقاب أبدي خالد ينال المرء مهما علا شأنه ويصله بألم لا تبلغه آلام الدنيا مهما قست على الإنسان– جزاء عادلاً لازماً يصل الإنسان أينما كان ولا يصل الإنسان إلا إذا كان جانياً.
المجهر السياسي