منصور الصويم

سحرة المدن القديمة


المدن القديمة هي تلك المدن التي بشرت في ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي بإمكانية صعود دولة حديثة متمدنة اسمها (السودان)؛ هذا بالطبع قبل وقوع الردة الحضارية المزلزلة التي أصابت هذه المدن بصدوع عظيمة وتركتها ما بين التريف والتمدن حائرة، وساكنها بدوره متردد وحائر الخطو، لا يعرف إن كان بإمكانها الذهاب أبعد من هنا أو أنها ستتقوقع أكثر في حالة تدهور شبه مستدامة.. المهم يا (سادة) تلك المدن الوليدة – ابنة الزمن الحالم، ضمت بين أنحائها وأحيائها نماذج إنسانية متفردة؛ تجدهم في كل مدينة وبذات الصفات والمواصفات وكأنما هناك اتفاق جيني – مديني بين هذه الأمكنة وناسها.

ظرفاء المدن، حالة توصيفية مثالية لنماذج من تلك الشخصيات التي أوجدتها المدن للتدليل على اختلافها كوعاء ديموغرافي ومكاني، والظرفاء بلغتهم الخاصة ونكاتهم الحاضرة وثقافتهم ذات “من كل بستان زهرة” يصلحون كـ(حالة تشريحية) قد تفيد في رسم تصوري لسمات الانتقال المديني التي كانت حادثة وقتها، وإلى جانبهم – وهم الأشهر لأسباب تتعلق بروح النكتة التي يمتازون بها؛ يمكننا أيضا أن نتحدث عمن أطلقت عليهم (سحرة المدن) باعتبارهم نموذجا دلاليا آخر على سُلّمية الانتقال المديني المتدرج وقتها قبل حدوث الفجوة الارتدادية الحادثة الآن.

سحرة المدينة السودانية القديمة يتلاقون مع ظرفاء المدن في بعض الصفات والميزات أهمها أنهم أناس اجتماعيون إلى حد بعيد مع اختلافات بعضها طفيف والآخر حاد، ومثال للاختلاف الطفيف تجد أن الساحر منفتح في اجتماعيته هذه – التواصل مع الناس حضوريا – إلى أبعد الحدود بعكس الظرفاء الذين قد ينحصرون وسط فئات معينة – الأثرياء مثلا – لدواع تتلخص في استثمارهم ولو جزئيا لهذه الظرافة وجني بعض أرباحها، أما الساحر فإنه لا يرمي إلى أرباح مادية (مصلحة) من انفتاحه هذا ولا يتخير جماعة من دون أخرى فهو موجود في كل مكان: أنيق، وسيم، متحضر وجذاب. الاختلافات الحادة بين الاثنين قد تبدو متناقضة مع ما ذكر، فالساحر رغم انفتاحه على الجميع – الأهالي والشرائح المجتمعية الأخرى بمختلف مواقعها السكنية، إلا أنه منغلق على نفسه (مجموعته)، كتوم، صامت وغامض جدا، دائما تراه متخيرا مكانا بعيدا عن الآخرين، إذا مشى أسرع، وإذا تكلم همس، وإذا ضحك فضحكه خفيض وسريع ومهذب جدا.

الساحر مثله مثل ظريف المدينة قد يكون عاطلا عن العمل، وقد لا يعرف الناس طبيعة مهنته إن كان يعمل، إلا أنه يبقى رغم ذلك محافظا على وضعية مادية ثابتة تظهره بذلك السمت الأنيق وتتيح له الوجود الدائم في: السينما، استادات الكرة، المهرجانات، الحفلات الجماهيرية.. والسفر من فترة إلى أخرى إلى العاصمة ليعود وهو أكثر غموضا وسحرا!

لم يعد هناك سحرة أو ظرفاء الآن، وصارت السيادة لـ (التفكك والجرجرة).

نواصل