الحالم
يحكى أن الحالم هذا رجل من السودان، ضاقت به الحياة مثله بقية كل السودانيين الذين يحيون داخل الوطن أو أولئك الذين تمكنوا من الهجرة والاغتراب ظنا منهم أن الحياة في مكان آخر أجمل وأرحب وستخفف عليهم كثيرا هذا الخناق، وما دروا أن (الضيق) سيترافق معهم أينما رحلوا وحلوا بما أن البلد (هنا) لا تزال تعاني منه ومنسجنة بين أسواره.. الحالم من هؤلاء الذين سافروا إلى بلاد الاغتراب، ومن هناك أخذ يتابع ما يحدث في وطنه وبعمل بكل قواه في العمل والكد والتعب على تيسير الممكن من (حياة) لأولئك الذين هم برقبته من أهل وأحباب وأصدقاء.. مساران من الإنهاك والاستهلاك ظلا يتبادلان الحالم لعامين كاملين منذ اغترابه دون أدنى إحساس بالتغير وانفراج الأزمة ولو قليلا؛ تلك التي تركها وراءه على أمل.
قال الراوي: في مساري إنهاكه واستهلاكه المستديمين بأرض الهجرة، انسحب الحالم تدريجا إلى دهاليز الذاكرة، ومن هناك أخذ في كل يوم يستعيد أوقات بديعة كانت له في بلاده السودان؛ أوقات من الطفولة والصبا، أوقات للانتقال الرجولي (الطريف) وهو في قريته البعيدة يمسح الليمون على أرضية لحية تدلل في الإنبات، أوقات عشق وغرام أولي وانجذاب صوب (بت الحلة)، أوقات مرحة على صينية فطور أو غدا مع الوالد وبقية الأسرة، ملاح (كجيك) بصل أخضر، كسرة حمرا، ثم الجامعة، الأصحاب، أول يوم وظيفة…إلخ ذكريات مكثفة ظل يستدعيها الحالم ويعيد بنائها وتشكليها ليصنع منها أحلاما يتقي بها كوابيس إنهاكه واستهلاكه المستديمين.
قال الراوي: بعد استدعاءات متصلة وملذة تتداخل وتقاطع مع الأخبار (المحبطة) التي تصله من السودان عن التدهور المريع للأحوال المعيشة هناك، استقر الرجل الحالم على حلم واحد ظل يراوده في أحلامه المنامية المتقطعة وفي أحلام يقظته التي تقاوم عجلة الاستهلاك المستديم، حل يتكاثف في كل يوم أمامه مشكلا لوحة إنعاشية ثابتة (ترفرش) روحه المجروحة لمكانين؛ حلم يتداعي في رجع صدى صوت (طاحونة) ودقيق ذرة (أحمر)، و(ويكة) تسحن تحت ضربان يد فندك وشرائح لحم رقيقة معلقة على حبل غسيل، وبساط مفرش على الأرض حوله ناس كتااااااار.. وبس.
ختم الراوي؛ قال: وهو يعمل بكد وجد رهيبين في مهجره كان الحالم يبدو مبتسما على طول وهو يبصر في شاشة حلمه صينية السودان الشهية تشبع الجميع.
استدرك الراوي؛ قال: بحلمه تداوي الحالم وابتلع ريقه.
أساطير صغيرة – صحيفة اليوم التالي