منصور الصويم

رسائل إلى زينب 3


فاجأتني الرسالة الثالثة، فبعد الرسالتين السابقتين توقعت أن يستمر العاشق في بث أشواقه ومناداة حبيبته زينب، كما ظننت أنه بدأ يقترب منها وينهي عذابه، بيد أنه أذهلني بأحداث أعادتني من جديد إلى مربع الفضول والتشويق. رجعت ليلا كعادتي وأنهيت طقوسي البيتية اليومية، ثم أخرجت الأوراق وانكفأت بتكاسل على الرسالة الثالثة؛ تكاسل تحول إلى سباق مع الكلمات حتى أصل إلى النهاية. قرأت:
“يا زينب، بعد عثوري عليك في صفحات ناشطي الفيس؛ أقصد عثوري على درب يفضي إليك، عزمت على مضاعفة البحث عنك حتى أقابلك وأنهي هذا الشوق العذاب. وجدت بسهولة عنوان المنظمة النسوية التي رعت قضية البنت – شريكتك في صورة الفيس. مكافحة زواج القاصرات، ومحاربة الختان، وقضايا المرأة والجندر ووو تلك شؤون المنظمة. تحركت إلى مقرها في الخرطوم 3 ذات صباح مترع بالقلق ومشوش بالحنين. لكن، يا زينب لمَ أنكروك؟ لمَ أقصوك عني وأبعدتني بنت الاستقبال النحيلة بعد ترددي على المكان لثلاثة أيام متتالية؟ رفضت إعطائي بياناتك، وفي المرة الأخيرة هددتني بالشرطة إنْ عدت للسؤال مرة أخرى! لكنني عدت ومكثت بعيدا عن البوابة مترصدا ومتصيدا. هل مضى أسبوع أو أكثر وأنا ارتشف فناجين الشاي والقهوة والزنجيل على بنبر بائعة شاي صموتة وغامضة قبل حضورك البهي وبيدك يمسك الصبي الجميل. اندلق فنجان القهوة على قميصي وأنا أبصرك من بعيد فابتسمت ست الشاي الغامضة. كنتِ تمشين كأنك لحن موسيقي، والصبي يتعلق بيدك ويتقافز كأنه عصفور دوري. انتظرتك نهارا بأكمله إلى أن خرجت وبيدك الصبي العصفور يتقافز ومشيتك الموسيقي تمضي منسابة بك. نهضت وسرت خلفكما. خطوات قلائل كانت تفصلني عنك، عن كل ذلك الشوق اللاهب والسنوات التي انصرمت في استحضار صورتك البهية، خطوات قلائل لم أتمكن من تقليصها قط رغم سرعتي في المشي ومحاولتي للركض حتى أكون قريبا منكما، خطوات ثابتة كأنها تتحرك مكانك سر والفضاء بيننا كما هو ساكن وجامد إلى أن وجلتِ الحديقة والتفتِ نحوي سريعا ورميتني بنظرة حارقة.
كانت حديقة إشراقة بالخرطوم 3، كنت واثقا من ذلك، لأني قرأت اللوحة قبل أن أدخل وراءكما وأتوه بحثا عنكما. ثوانٍ فقط فصلت بين خطواتي الوجلة وولوجكما إلى الحديقة، لكني طفقت أبحث عمرا بأكمله داخل مكان لا أدري من أين انبثقت أشجاره العملاقة وشلالاته المنهمرة، ومن أي العوالم حلقت طيوره الصادحة الصاخبة وعصافيره المزقزقة الضاجة. كنت أمشي مدهوشاً ومرعوبا على بساط العشب الأخضر الكثيف الذي تمدد أمامي فجأة إلى ما لا نهاية، وتلك القطط المرقطة، الملايين منها تلهو مع الملايين من الثعالب والقرود وحمير الوحش، ثم السلاحف العملاقة على الماء والطحالب؛ فضاء من الطحالب والصخور وأشجار التين الشوكي.. والبحر يا زينب من أين جاء؟ أبصرتك تنحنين على كائن شوكي ضئيل ثم تختفين، شاهدت رجلا له لحية بطول العالم يقلب كتابا مشغولا بالرموز تحت جذع شجرة تفاح عملاقة، رأيت المركب، السفينة، الفلك والربان فارع الطول، أكان نوح؟ أم تشارلز داروين وهو يقلب سرطانات البحر وقواقعه بين يديه؟ وأنت ماذا تفعلين هنا؟ كيف جئت بي إلى هذا المكان؟ وإلى أين تبحرين في السفينة ذات الشراع الأسود؟ ركضت؟ قطعت ملايين الفراسخ في أرض كلها تلال وجبال وأنهر ووديان قبل أن تبرق أمام وجهي أسنان ذهبية ويستقبلني بمؤخرة طبنجته القرصان جاك سبارو؟ كنت أغيب عن الوعي وأنا أراك تسافرين. هل كان ذاك فلك نوح أم سفينة اللؤلؤة السوداء، أم هي مركب كائنات دارون الحلقية؟”
أكملت القراءة وبي شوق لمطالعة بقية الرسائل، لكني أجلت ذلك لأيام قادمات. وأنا أتهيأ للنوم قررت أن أغشى غدا وراقي مفروش أم درمان، سأشتري بعض الكتب، منها أصل الأنواع وسيناريو اليابسة وربما قصة الخلق.