منصور الصويم

مجموعة “ملاحم” القصصية.. دعوة للقراءة


تعطينا مجموعة (ملاحم)، للقاص الشاب إبراهيم جعفر مكرم، الدليل على صعود أصوات جديدة في كتابة القصة القصيرة في السودان، ويمكنني القول بكل ثقة إن جماعة (جيل جديد)، التي ينتمي إليها الكاتب، وتنشر مجلة إلكترونية بذات الاسم وعنها تصدر هذه المجموعة؛ تمثل بالفعل جيلا جديدا في الكتابة القصصية السودانية، وأتعامل هنا مع المجايلة باعتبارها مفهوما يشتمل على الإضافة الإبداعية التراكمية؛ بمعنى تقاطعها واتصالها في ذات الوقت مع ما سبقها من تجارب، فهي تجربة تضع حلقة جديدة في سلسلة القص السوداني، نعثر على ملامحها بسهولة في نصوص إبراهيم، فمحاولة الخروج على المألوف من طرائق قص وكسر لتقنيات كتابة باتت مستهلكة وشبه معلبة هي أولى الملاحظات التي سنخرج بها بعد إكمالنا لقراءة المجموعة.
(فنتازيا بصر “مضوي”) أحد نصوص المجموعة، وفيه يتم الاشتغال على الغرائبي بمثابرة راصدة، تقترب من البحثية العلمية المتمازجة مع سرد ساخر وناقد يقدم الواقع في قالب فنتازي يفضح ويعري الواقع دون أن يخلق هوة تفصلنا عن الإحالات الحقيقية التي يرمي إليها القاص، كل هذا يأتي عبر لغة سهلة – ميزت كل المجموعة – تنأى عن التحامل الشعري وتؤكد على حكائية الحكاية مع الاحتفاظ بالكثافة المفترضة لكل نص. انظر إلى هذا المجتزأ المحتشد بالسخرية والغرائبية في آن: (ثم رقى مهاراته مستخدماً حائطاً قصيراً ليمرر بصره من فوقه، واستمر يتدرج حتى بات بإمكانه إدخال بصره عبر ثقوب بحجم قبضة اليد دون أي ممانعة.. وكان كل ما يتطلبه ذلك هو أن يطرف بعينه حتى يلتوي بصره).
في نص آخر يمكننا أن نمسك بتلك الخصوصية (البصمة) التي تميز هذا الصوت الجديد. القصة بعنوان (بائع الموز) وتبدأ بداية تقليدية وكسولة ثم يصدمك القاص – الراوي فجأة بانتقال سريع يخلخل أساليب القص المعتادة ويفككها ليعيد بناءها من جديد، وذلك من خلال تقطيع سردي سريع ومتتابع يبعثر الوقائع ثم يجمعها في بؤرة حدثية جامعة. النص تجريبي بامتياز ويوضح انشغال الكاتب بفكرة الخروج من فخ التقليدية والتكرارية السائدة.. القصة تتخذ من (السوق الشعبي) فضاء لأحداثها، وتجعل من بائع الموز الصبي شخصية مركزية تنفتح على حركة السوق بأحداثه الصغيرة وحكايات بائعيه التي تتلاقى في أبعادها المأزقية وواقعها المهمش. عرض مكثف يمنحنا ملمحا كاملا – سريعا وموجزا – لكل ما يجري داخل هذا الفضاء، الذي بدوره يحيلنا إلى فضاء آخر أكبر وأكثر اتساعا يمكننا أن نسقط عليه حيوات كافة هذه الشخصيات – الوقائع بكل مرموزيتها، ربما هو السودان الوطن الكبير أو السوق الشعبي الأب. اقرأ معي: (وفي زمان ما من توقيت (نحمدو ونشكرو)… كان هنالك بائع موز، ولد صغير، يدعى “ود فلان” – بالمناسبة كل بائعي الموز أسمائهم كذلك، أتبدو غريبة؟! لا يهم).
تميزت بعض نصوص المجموعة بالطول النسبي مما يضعها في موقع محايث ما بين القصة والرواية، سواء من حيث استطالة زمن السرد أو تقنياتها. واعتمد الكاتب في سردها على العنونة الداخلية وتعدد الشخوص وتشعب الأحداث كما في قصة (أتْسِيدِي.. المَـوْتُ وُقـُوفاً!)، وهي ربما إشارة على طول النفس السردي للكتاب إلا أنها قد تكون خصما على رصيده القصصي في (القصة القصيرة)، بما أن النص يصبح متأرجحا ما بين شكلين سردين يتلاقيان في جذرهما السردي ويختلفان في تقنيات كتابتهما. فقصة (أتْسِيدِي.. المَـوْتُ وُقـُوفاً!) رغم جمالية موضوعها والبعد الإنساني الذي يحيل إليه، إلا أنها عانت من بعض الترهل السردي الذي حتمه الطول المفترض لنص يحكي أحداثا لما يشبه (الرواية) ويأخذ مكانا وسطا ما بين الحكاية والقصة القصيرة، كما أن بعض النصوص الطويلة قد يبدو عليها الانزلاق الطفيف صوب التقريرية مثلما في نص (مقتل تانك)، بيد أن هذه النصوص تعرفنا على ذلك الاهتمام الذي يوليه الكاتب لقصصه، بما يحيل إليه من هوامش تفسر ما يراه غائبا عن القارئ، وهذا ينبع أيضا من الاهتمام البحثي الذي يوليه الكاتب لكل نص وما يجمعه من معلومات تتعلق بهذا تؤكد لنا انغماسه الكامل في فعل الكتابة – تلك الاحترافية المفتقدة الآن في كثير من الكتابات السردية.
حفلت مجموعة (ملاحم) بالأكوان القصصية المتنوعة تقنية وموضوعا، ووفق الكاتب إلى حد كبير في اختيار عناوين مفتاحية محفزة على القراءة، وذات دلالات محتشدة بالجمالي والعلاماتي، فهي – العناوين – تبدو هنا وكأنها باب سحري يجذب القارئ لولوج هذه العوالم المدهشة، مثل: “تسع وتسعون جثة من “السيد”..!، و”العوض.. ملحمة المطر”، و”حكاية الزول الذي صدمته سيارة جيب”.