عندما يكتب فريعابي
التشكيلي الرائع فريعابي محمد أحمد، قبل أن يتخرج في كلية الفنون الجميلة، قد تخرج في مدرسة المحمية (دامر المجذوب) يستخدم هنا ريشته لمرسم حزن هائل أقام على قبره مأتماً وعويلاً، وهو يذكر حمزة الذي لم نعرفه إلا من خلال هذا المرسم الحزين، فكم فتى بمكة يشبه حمزة، وبالمحمية أيضاً رحمة الله رحمة واسعة وألهم الله فريعابي وأهله وأسرته الصبر الجميل، فبقدر ما نحزن لرحيل حمزة ، بقدر ما بخير كسرنا بحضور فريعابي الشفيف وهنا يتشكل.. فلا غرو فالرجل سليل عكير الذي قال يوماً
صفتن البقت للأكرمين صفاية
ماكفاها أحمد كوكب الحلفاية
لكباشي جات بعمرتها الكفاية
كايسة الجيلي عرقانة ورجو له حفاية
والآن إلى متن رسالة الأستاذ فريعابي:
حمزه
الشعاع الذي مازال
أيها الرجل الذي نحسب أنه حجز مكاناً في عليين بعد أن دفع ثمنها ذكرا وشكرا ونسكا وصلة رحم أيها الجميل الأنيق البريئ المنسجم داخلا وخارجاً حسن الخلق، فوجد مكاناً في قلوب الصالحين، أيها المتوضئ بماء الغيب.
ترك المرحوم الأخيرين يحتفون بتحول مأسأتهم الى خبر عادي يتكرم عليهم بالجدران الملوثة التي أدمنت الإقامة في مناحي التاريخ في تاريخنا الوسخان بالشوف المشوش، ونحن اليوم نفتقد (البشير)، نحن اليوم محاصرون في حجر متسول لا يليق بقامة (البشرى) ولا يشرفه (شرفها).
تعلم حمزة منذ تركنا (حفيانين) أنه يشرب من كأس الذكر سحراً ويغتسل فجراً على إغاثة الملهوف وما الامرأتان اللتان كانتا تزودان قرب الصيدلية وتنتحبان وتعزي كل واحدة الأخرى، وتبكيان حمزة بلا رابط رحمي، لأنه كان يسقي لهم قبل الرعاة، ويتفقدهما رمضانا وعيدا، كانت شفتاه الوضيئتان تتحدى (الغفلة)، صنع له وطنا خاصا يحمله على يديه (المتوضئتين)، وقف ردحاً أمام خريطة عمره الراحل، عمر شيدته شفتان تدمنان قراءة سورة الكهف هرباً من كهوفنا الصدئة إلى سقف لم نره يقف حمزة اليوم مميزاً في رحيله (الأبيض) يغادرنا معتمراً (زهده) حاجا كل فجر إلى غفران سرمدي يرتدي (صوفه) الأشرف، ويدفن فيه، كانت دولة التصوف تنزلق إلى سيرته ليلتحق هو بترابها، كان أشهر من (راياتها الرسمية)، كانت الراية ملاصقة لصورته متوحدة به جسدياً حتى غدا (الزهد) وطننا منضوياً في سبحته.
ذهل الأحباب أمام نبأ الفراق، فعاش محمولاً على الذاكرة، ذاكرة الأنامل المتوضئة وقت السحر أن يمنحه الإله تذكرة العليين، نحن في حزننا الأنيق لا نجد متسعاً للبكاء لأننا ارتدينا طويلاً حداد (الأحياء).
يا كوكبا ما كان اقصر عمره** وكذلك كواكب الاسحار
وهلال أيام مضى لم يستدر** بدراً ولم يمهل الى الاسحار
عجل الخسوف اليه قبل اوانه** فمحاه قبل مظلة الابدار
نمحو اليوم آثار الطباشير على الأرض لنرسم قوانين عنوان جديد.. حمزة.. أسد أحبه كل شيء.. فغيرت الأرض ديكورها.
نحن.. وأثناء تسكعنا (بتوقيت مجاني) تتسخ أعمارنا ونصاب بخدوش من رذائل العمر إلا حمزة (بشيرنا) إلى المصلاة، فكل (تبروقة) دونه.. فخ نصب لنا وفي كل مصلى إلا هو تركنا ووراءنا شيء من الاستغفار، كان علينا الاعتراف أننا تجاوزنا (حدودنا) مع أعمارنا والإقامة (في طلمبات) السهو.
علمنا حمزة أن حب الناس لا يرسم بفخامة الملبس والمركب والحذاء الأنيق والوجاهة ونعم الإله لا تكتب بطلاء الأظافر، التاريخ وحده يكتب على سبورة أعمارنا (من أحبه الله حببه إلى خلقه) لم يعد أما منا متسعاً للغفلة، فنحن نهرب اليوم من الذكريات المفترسة إلى وفاء جديد وفاء لعنوان مكتوب عليها هنا ترقد رفات (حمزة البشير الباشا).
كان المرحوم منذ ولادته يتمرن على الموت فاختار الزهد من الزخرف، اختار حمزة أرضاً رويانة من ضواحي القلب فمه الذي يغسله الاستغفار والصلاة على النبي لم يكن همازاً مشاءً بنميم تسامى فسما تعالى على مباهجها فعلا كان شخصاً استثنائياً عرف أن مكانه الشمس، فأصبح أحد اشعتها فانسل من الدنيا في هداءة الليل الذي يعشقه ليلحق بالشمس قبل شروقها ويأتينا شعاعاً يعملنا كيف أنه صنع الضوء بسيط كالبساطة وضيء كالوضاءة سكن على رصيف الدنيا فأهدته أجمل ما عندها حب الناس، حين يلتقيك يجتاحك بتدفق مدهش كان لابد أن يذهب باكراً لأننا نحسبه من (القليل).
(رحيلك ضعنه في لهاة الحبي دريفين).
ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي