لمن فاتهم الاحتفال
بثت قناة الجزيرة الفضائية ضمن سلسلة أفلامها الوثائقية الباهرة التي طفقت تتحفنا بها هذه الأيام، بثت فيلما وثائقيا مؤثرا جدا عن الركام والخراب والحريق الذي انتهت إليه دولة جنوب السودان، بعيد نيلها الاستقلال، بحيث عرض الفيلم على مدار خمسين دقيقة الجهود المضنية الجبارة، التي اضطلعت بها بعض النخب الغربية والمؤسسات الكنسية لأجل صناعة الدولة الجنوبية، والآمال الكبار والأشواق التي وضعت على عاتقها، بحيث سجلت اعترافات باهظة جدا، في هذا العمل الاستقصائي المتقن من الناحية الدرامية والمظهر، الخبيث من الناحية الأخلاقية والمخبر، اعترافات عن عمليات التسويق الباهظة للانفصال، وتصوير المواطن الجنوبي على أنه ضحية لعمليات الاستعلاء العرقي والطغيان الديني الذي مارسه الشماليون باستمرار، بحيث أن الجنوبي يدفع ثمنا باهظا مرتين، مرة يدفع ثمن تمسكه بديانته المسيحية، ومرات يدفع ثمن لونه وعرقه !!
على أن عمليات العزف على هذه الأوتار بعناية واحترافية مدهشة، هو وراء تدفق التعاطف الغربي لخدمة مشروع انفصال جنوب السودان، ليؤسس القوم دولة الحرية والمواطنة المسيحية الملتزمة، التي عليها المساهمة بقوة في إعادة ترتيب وتشكيل القرن الأفريقي وفق رؤية صهيونية جديدة قديمة و…
* ولما كان يوم الاستقلال، كانت تلك المؤسسات التي عملت على مدى عقود بأكملها تتنفس الصعداء، لطالما أنفقت الكثير من الوقت والمال والتسويق الإعلامي للوصول إلى هذه اللحظة التاريخية الشاهقة الفارقة و.. و..
* ثم لم يمض طويل وقت حتى بدأت الدولة الوليدة تتحدرج نحو الهاوية، وذلك بفضل نزوعات النخب الجنوبية السلطوية من جهة، ومن جهة استشراء عمليات الفساد في كل بنيوية النخب السياسية، على أن الأسوأ في ماراثون التهافت الجنوبي الجنوني على السلطة، هو بلا منازع استخدام القبيلة لتحقيق مكاسب سياسية، فكانت هذه الخطوة بمثابة نزع فتيل البارود واشتعال الحريق في كل الأحراش والغابات والمدن على النحو الذي أذهل العالم بأسره و.. و..
* لتنتهي آمال عقود وجهود سنين بأكملها على حافة المشهد المحترق، فلم يملك الأبطال الحقيقيون من نخب الحركة الشعبية والمنظمات الدولية بعد نهاية المسرحية، إلا الهروب إلى نيروبي ولندن ملتحقين بأولادهم وأرصدتهم هناك، تاركين وراءهم شعب الجنوب للمحرقة التاريخية، وهو يومئذ لا يملك أي حيلة ووسيلة للنجاة، (ولا في أيدو جواز سفر)، وكل أرصدته هي سني المرض والحرب والنزوح وتسديد فواتير نزوات ونوزوعات المناضلين غاليا !!
* مخرج.. وسبحان الله لما احترق الجنوب لم يفر الجنوبيون إلى إثيوبيا ويوغندا، وإنما عادوا إلى الأم الرؤوم السودان، وهذا وحده يحرق، كما غابات الاستوائية، كل دعاوى مواطنة الدرجة الثانية، إذ كيف يعود الضحية إلى الجلاد؟!