وداعاً الجميل داود مصطفى
داود مصطفى، الرجل الفنان صاحب الحس الإبداعي والجمالي الكبير، غادر فجأة يوم أمس الأول وخلف وراءه حزنا شاسعا تمدد في أوساط الصحفيين بعد شيوع نبأ رحيله المؤلم.
أول عملي بالتدقيق اللغوي في الصحف كان برفقته في صحيفة رياضية كان يشغل مدير تحريرها اسمها (الأبطال)، كنت حينها جديدا على الوسط الرياضي – الصحافة الرياضية، وغير ملم بكثير من تفاصيلها، وكنت أشك في قدرتي على التواصل مع أشخاص أرى أن شقة الاهتمامات بيننا جد كبيرة؛ لكن داود بحساسيته العالية ونبله الإنساني أحس بما أفكر فيه، وبالحيرة التي شملتني منذ يومي الأول في العمل، وكل الحوارات والأحاديث حولي تدور وفقا لمصطلحات ومفاتيح رياضية وكروية خاصة جدا.
عرفني داود على وجه آخر للصحافة الرياضية، أو للصحفي الرياضي، وجه محب للفن وتذوقه، قادر على نقده وتشريحه، وجه ملم بالآداب والثقافة ومتابع جيد لكل مستجد في هذا المجال، كما تعرفت من خلال الجلسات القصيرة التي كنت أحظى بها معه على سيرة وتاريخ آخر غير رسمي للفن الخرطومي، لا سيما فرق موسيقى الجاز في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى تلك العلاقة التاريخية النادرة والمحبة التي كانت تجمعه بالفنان الرقيق الراحل زيدان إبراهيم، والكثير عن زيدان وإنسانيته وإحساسه بالآخر عرفته عن طريق داود.
في تلك التجربة الأولى لعملي بالصحف الرياضية، أزاح داود بسلوكه وطريقة كتابته الكثير من المفاهيم الانطباعية التي كنت أتصورها عن الصحافة الرياضية، وجدت برفقته ورفقة آخرين دربا آخر للاستنارة والمعرفة زودني بالكثير.. وفي تجربة ثانية وأخيرة عملت مع داود في صحيفة (حبيب البلد) وكان في هذه المرة رئيسا للتحرير، يتعامل مع الآخرين بتلك النسخة الأصلية من النبل التي يحملها بداخله وتشع من حوله، لم يتغير شيء في سلوكه ولا امتدت يد سطوته الإدارية الجديدة لتطال المحررين والعاملين بالتقريع أو الانتقاص، هو نفسه بعفويته وبساطته وثقافته الرفيعة.
وداود مصطفى، في رأيي، يمثل جيلا من الصحفيين الرياضيين، استطاع أن يرتفع بالمستوى الخطابي للعمود الصحفي، وأن يجعل للمفردة الأدبية والشعرية سبيلا وسكنا في هذا الضرب من الكتابة ذات البعد النقدي، الذي عمد البعض إلى تشويهه بمبتذل القول وسيئ المعنى.
إلا رحم الله صديقنا وحبيبنا داود مصطفى وأسكنه فسيح جناته في عليين.