جعفر عباس

السودان يخفض «الضغط»


منذ سنوات وأنا أتعاطى تيفتن ونورفاسك للحد من ارتفاع ضغط الدم، وظللت طوال تلك الفترة منضبطاً في تناول الدواء وتفادي كل ما يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم.. قدر المستطاع.. أقول قدر المستطاع لأنك لا تستطيع أن تسيطر إلا على طعامك وشرابك وسلوكك بما يمنع ارتفاع ضغط الدم عندك، ولكن ماذا تفعل بالناس الذين هم سبب أساسي لأمراض الجهاز الدوري والقلب؟ معظم الناس طيبون وودودون ومهذبون، ولكن هناك العديد من الناس الذين هم قمة في الجلافة وقلة الذوق. أناس قد لا تجمعك بهم صلة دم أو رحم أو حتى عمل، ولكنك تلتقيهم عرضاً فيسممون بدنك، إما بألفاظ نابية أو بسلوك فظ لا مبرر له وبالمناسبة فإنني ممن يعتقدون أن الرياضة تفسد الأخلاق، لأن تسعين في المائة من اللاعبين يتلفظون بكلمات بذيئة أو غير مهذبة أثناء المباريات، أما الحديث عن الأخلاق الرياضية فهو كالحديث عن الوحدة العربية، مجرد كليشيه عديم المعنى نردده ببغاوية مقيتة. وقيادة السيارة أيضاً تفسد الأخلاق، فهناك من يبصق في وجهك عبر نافذة السيارة لأنك لم تنطلق بسيارتك بالسرعة التي يريدها هو، أو لأنك لم تدرك أنه شخص مهم وتفسح له الطريق ذا المسار الواحد، ومفردات مثل: حمار.. غبي.. زفت.. يتم تداولها عبر نوافذ السيارات يومياً آلاف المرات!!
ولكنني خلال الجزء الأخير من ديسمبر المنصرم وأوائل يناير من كل عام أكون من الناحية الفنية في غنى عن عقاقير خفض ضغط الدم، لا أتوقف عن تعاطيها ولكن ضغط الدم عندي يكون شبابياً خلال تلك الفترة لسبب بسيط: لأنني أقضي تلك الفترة عادة في السودان،.. مع إخوتي وأقربائي وأصدقائي، وينتهي ديسمبر ويبدأ عام جديد ولكن لا أعرف بأمر رأس السنة لأن كل يوم أقضيه في السودان رأس سنة وجدير بالاحتفاء!!
في الخرطوم أدرك معنى وقيمة راحة البال.. أن تكون بين أناس يحملونك في حدقات العيون ليس طمعاً في مغنم أو ترقية أو مناقصة بل لأنك منهم وفيهم… لحمهم ودمهم.. وفور عودتي من السودان تتضخم فاتورتي الهاتفية، لأنني وإن لم أكن قادراً على التواصل العضوي مع أهلي وأحبائي في السودان، فإنني على الأقل أستطيع أن أتدفأ بأصواتهم ولتذهب الفواتير والفلوس إلى من لا يحسون بالدفء إلا بملامسة المال!
لا أظن أنني شخص عصبي ومع هذا فإن الأطباء يقولون إنني أعاني من ارتفاع ضغط الدم العصبي (stress hypertension) الذي ينجم عن التوتر! شؤوني الخاصة لا توترني، فأنا راض بما عندي وشاكر، وعيالي بحمد الله أصحاء ومجتهدون وحسنو التربية (في نظري على الأقل)، ولي العديد من الأصدقاء الأوفياء، ومع ذلك فإنه لا يمر يوم من دون أن يغلي دمي: أمورنا وأحوالنا تثير القرف والحزن. سادتنا يضحكون على العقول ويحسبون أننا عجول.
العالم يسير إلى الأمام وينجز بين الحين والآخر كشفاً وفتحاً علمياً وثقافياً، ونحن لا نتقن سوى كشف حال بعضنا البعض بالهتر والسباب والتنابز بالألقاب!! وعلى صعيد شخصي فإنني أستاء كثيراً من ترويج نكات عن «كسل» السودانيين، ومنشأ الاستياء هو أن مروجي تلك النكات أنفسهم في طليعة منتجي ومصدري الكسل، ولا يتقنون سوى الجدل وقلة العمل، بينما في السودان لا يعرف أحد النوم قبل انتصاف الليل، ولا توجد عندنا شيشة ولا مقاه لطق الحنك والنميمة.. ومن لا يعمل يصاب بالبواسير ويصبح أسير الفراش.. أصبحنا شعباً صلب العود، يئس من الحكومات المتعاقبة وتولى بنفسه مقاليد أمور الصحة والتعليم وسائر الخدمات.. وحكوماتنا مشغولة حالياً بتقاسم السلطة والثروة مع المتمردين في الشرق والغرب (لم يعد عندنا جنوب)!! كانت السلطة والثروة كلها في جراب واحد ولم يحس بها الشعب فهل سيحس بها بعد أن تصير أرباعا وأخماسا.

jafabbas19@gmail.com


تعليق واحد