جرحى اليمن و”جرح” الوطن
* لهث محموم.. ركض غير مبرر.. وتمتمات غير مفهومة تخرج من بين شفتي الطبيب بعد أن حاصره أهل الأم التي تنتظر أسرتها الاحتفال بمولودها الأول مستفهمين بقولهم: (أها يا دكتور بشِّر ولد ولا بت.. وعمليتكم مالا اتأخرت كدا.. معقولة ولادة سبع ساعات كاملة.. ما تتكلم يا دكتور مالك اتبومت النسوان ديل دايرات يزغردن ويوزعن الحلاوة).
*.. والدكتور الذي يتصبب عرقاً ويتدفق انتهازية كان الأحرى بالخجل أن يُبلِل رأسه قبل أن يجيب بقوة عين: (حقيقي العملية كانت صعبة وخياراتنا محدودة وما كان قدامنا غير خيار نضحي و…..)…
وقبل أن يكمل حديثه الذي بات واضحاً من عنوانه يلتقط والد الزوجة التي ترقد ممددة داخل غرفة العمليات القفاز بكثير حكمة وعميق إيمان ليخفف عن أفراد أسرته هول الصدمة مستبقاً دوي عاصفة الفجيعة لمن يترقبون قادما جديدا بقوله: (عارفين يا دكتور إنتو ما بتقصروا لكن الحذر ما بنجي من القدر.. وطالما ضحيتوا بالجنين عشان تنقذوا الأم إن شاء الله ربنا يعوضا..!)، والدكتور يرد بوقاحة نافياً: (لا ما ضحينا بالجنين عشان ننقذ الأم.. العملية خلتنا أمام خيارات محدودة فضحينا بالجنين والأم عشان ننقذ المستشفى..!).
* ومفارقة التضحية بالجنين والأم بغية إنقاذ المستشفى هي ما وصل إليه ملف علاج الجرحى اليمنيين بالسودان، فالفكرة كانت متجاوزة ومحترمة حقاً وفيها كثير من التقدير والمروءة والوفاء وتشبه أهل بلادي حتى ولو جاءت أجندات القائمين على أمر تنفيذها خالية من النبل الإنساني وفيها سعي لتحقيق مكاسب شخصية وربما مادية مع شيء من التمدد الذي يضمن بعض الفتوحات السياسية..!
* بدأت القصة إنسانية بحتة؛ أو هكذا كان يراها الناس، لتتحول فجأة من (عمل إنساني) إلى حلبة صراع، وأرض معارك بين أهل الحقل الصحي، تهديدات من هنا واستقالات من هناك.. تفاصيل مملة لا نود الخوض فيها.. مناوشات على صفحات الصحف و(كشف حال) أفرغ الفكرة من محتواها النبيل وشيّع بعدها الإنساني إلى مثواه الأخير.!
* بعض القيادات الوسيطة بالصحة جاهروا بالرفض بعد أن أصبح عدد الجرحى فوق طاقة المستشفيات؛ ووزيرة الدولة بوزارة الصحة الاتحادية سمية أكد بوصفها المسؤولة عن الملف تسعى بكل ما تملك من تخطيط وقدرات و(بما لا تملك من معينات) لإنجاح المهمة حتى مغادرة آخر وفد من الجرحى وإن جاء ذلك على حساب المستشفيات والمرضى السودانيين؛ فكلما زاد عدد الجرحى القادمين من اليمن كلما ارتفعت أسهم الوزيرة التي قدمت عبر هذا الملف أوراق اعتمادها (مسؤولة فوق العادة)؛ والمستشفيات من حولها تئن؛ وبحر إدريس أبو قردة الوزير الاتحادي يراقب الأمر بينما بحر سمية ينتظر وصول طائرات جديدة و(ما بيابى الزيادة)..!
* ليس مهماً عندي من يسعى لمكاسب سياسية أو من ينتظر دعومات خارجية؛ ولكن المهم حقاً إدارة أزمات هذا الملف بعيداً عن الإعلام حتى لا نهزم الفكرة ونظهر كأننا باحثون من وراء هؤلاء الجرحى عن غنائم؛ فيكفي ما سببه لنا (سوء التقديرات وصراع المصالح) من هزائم.!
نفس أخير
* لا تضحوا بالجرحى وسمعة البلد لإنقاذ المصالح!