رسائل إلى زينب 9
في رقادي الأخير لعبور طور النقاهة بعد الحادث المروري والتنويم في المستشفى، وجدت وقتا أكثر ملائمة لقراءة رسائل العاشق إلى حبيبته زينب، أعني أنني استهلكت تلك الساعات الطويلة المملة مستلقيا على الفراش وحيدا وبائسا؛ في تأمل هذه الرسائل وهذا الحب، القراءة المتمهلة والنظر الرائي المتفحص في حالهما وحالي وحال هذا الكون المائل، اليوم انتقل بي فجأة من السودان إلى مدينة تقع في بلاد أجنبية لم يحددها. سافر وغرق لأشهر هناك. قرأت:
“سافرت يا زينب، ضاقت بي البلاد وأظلمت أمامي الدنيا بعد محاولة آية المجنونة للانتحار. نعم، البنت الصغيرة المرحة المحبة للحياة والرقص والقبل، تركت رسالة صغيرة بجوارها وقطعت بموس تحديد حاجبيها شرايين يديها. أنامت نفسها على فراشنا، فرشته بالملاءات البيضاء المشكولة بخيوط مائلة الزرقة؛ ملاءات بختها وسعدها مثلما كانت تقول، لأنها أول مجال حسي رقيق وبهيج ضمنا سويا. قطعت شرايينها يا زينب، تضرج بياض الملاءات بحمرة دمائها، غرقت الخطوط الزرقاء المائلة في بحر دمائها، أوشكت على الموت وأنا أحملها بين يدي مهرولا في شوارع الخرطوم القاحلة حتى أنازع روحها في نزوعها. كتبت في رسالتها: “لقد كرهتك، كرهتني، كرهت زينبك التي لا تموت. سأموت أنا”. ولم تمت يا زينب. سافرت، تركتها لأهلها، ظهر له أهل، أب وأم وإخوة يصغرونها، كانوا يحبونها ويبكون الليل والنهار تضرعا حتى لا تموت وتتركهم، تجاوزوا كل شيء، سامحوني، تكتموا على الحادثة وأسكتوا الشرطة وإدارة المستشفى وجوع الصحافة، تخلصوا من كل أثر إلا جرعة المحق التي أصابتني وعرتني لنفسي كاشفة عن هوسي وجنوني وأنانيتي وغشي وخداعي، أي زينب أنت وأي مجرم يتجمل بحبك الطاهر أنا. سافرت، إلى مدينة بعيدة، على شواطئها الرملية البديعة أنجزت نهارات عذاباتي العارية، وفي بحر لياليها الطويلة نقبت في كهوف أجساد نسائها الكونيات بحثا عنك، آسيويات نحيلات بشعور فاحمة، كاريبيات بأجساد لدنة وسمرة كالقهوة وعرق بطعم العسل، شقراوات يصرخن الليل كله من اللذة ويصارعن وحشا يسكنني، شرقيات يرقصن كأنهن حبات المطر متهاطلة تنام على جسدي الجائع.. لكني لم أجدك، يا زينب”.
وحش، نعم، صائد طرائد لئيم، ومجرم مبحر في التاريخ السري لذبح الأنثى. هكذا أقرأك الآن يا سيدي العاشق, وأنا أنادي زينبك، علها تأتي.