منصور الصويم

رسائل إلى زينب 11


لم تعد سارة إلى زيارتي مرة أخرى مثلما وعدت وكما توقعت. لقد شفيت تماما وتخلصت من العكاز الطبي وعدت إلى سواقة ركشتي كأن لم يحدث شيء. في محطة “الدايات” بأم درمان احتفل الأصدقاء بعودتي بصورة صاخبة، وزعوا الحلوى وزجاجات الكولا وغنوا وكبروا وكأنني مولود جديد يخرج للتو من بوابة المستشفى محمولا بين أحضان أمه. أسعدني الأمر كثيرا وبث فيّ من جديد روح الحياة التي كنت قد بدأت أفتقدها. عملت ذلك اليوم على مشاوير قصيرة تنازل لي عنها بعض الزملاء وعدت إلى البيت مبكرا، فما زالت أحس ببعض الرهق نتيجة للرقاد الطويل. حين ولجت إلى الداخل فهمت أن زائرا ما قد زارني، وأدركت من شذا العطر العالق في المكان أنها سارة جاءت وما وجدتني.
حدس مربك داخلني وأنا أقترب من فراشي، لابد أن سارة عادت لأجل الرسائل وليس لأجلي، لابد أنها عرفت بخروجي اليوم وانتهزت غيابي لاختلاس الأوراق. تحققت ظنوني وأنا أقلب الفراش، وجدتها تركت رسالة قصيرة مكتوب عليها: “حمدالله على سلامتك، حضرت ووجدت الرسائل ولم أجدك، حملت بعضها لتدفئني بدفء روحك.. سأعيدها، لا تقلق”. سيطرت على غضبي وقلبت كومة الرسائل لأفهم بالضبط أي مجموعة منها اقتنصت. أمسكت الأوراق بين يدي ودون أن أدري وجدتني مستغرقا في القراءة، غارقا في مستنقع العاشق، مطاردا معه طيف زينبه المستحيل: “أدرت السيارة لأكون أمامك أنت والصغير، انتفض ماء الخور في وجهي وارتفع منسوبه حتى غطى زجاج السيارة الأمامي وحجب عني الرؤية، ثم انساب سائلا في انهمار تاركا خطوطا من حمرة طينية على سطح السيارة وزجاجها، وقتها كنت قد اختفيت أنت وصغيرك، وحتى بوابة البقالة صارت مقفلة. فكرت بالعودة إلى بيت جليلة وأمها الزمان. لأنام الليلة معهما وأدفن جراحي، لأنام الليلة في حضن جليلة، لأتنقل الليلة بين فراشي جليلة وأمها الزمان، لأغتسل بماء المطر ودموع جليلة الجليلة وعرق أمها الزمان وأتلطخ بأسى الحياة ومأساتها.. إليهما أستدير بسيارتي وأعود.
لكن يا زينب هل حدثتك من قبل عنهما، أعني الزمان وابنتها جليلة، عن البنت المنكفئة على نار موقد الشاي وبين يديها كتاب الفيزياء، عني تائها بك في أزقة السوق العربي أتنقل من ست شاي إلى أخرى إلى أن أتعثر بكتاب الفيزياء والبنت المنكفئة على نارها، وابتسامة الزمان الخبيثة وهي تسألني: (أعجبتك، تريدها؟؟ زرنا هناك في الحي البعيد).. هل حدثتك بذلك يا زينب؟”.
وضعت الأوراق جانبا، كم عدد الرسائل المفقودة الآن، ومتى تعيدها سارة؟ وأي إرباك هذا الذي يقودني إليه هذا الفقدان؟