لمحة من مأتم الحاجة عرفة
كان مسرحاً للاجتماع السوداني من جواهره المفتوحة على التوادد والتصافي والتأزر والشجن الهتون. كان بالفعل مؤتمراً جامعاً لأهل السياسة من دون خلاف، في برنامج الحد الأدنى جمع أكفهم ووحدها وامتد بها نحو السماء الرحيمة مرفوعة تسأل الرحمة لأم ضياء الدين، أحد منارات الصحافة السودانية وأكثر الفتية وفاء لها ومرضاً بها صار من الميئوس شفاؤه منها.
تقاطرت العمائم والقلوب الكبيرة نحو منزل جلال بلال أكبر أبنائها بحي ودنوباوي. لم يضل المُعزُّون طريق المنزل الكثير الالتواء والصارم المنعرجات؛ هكذا هي أحياء أم درمان القديمة، لأنها مُشيدةً بصدق النية الصافية؛ فكل بيت ينفتح على جاره بكبرياء الأخوَّة. أسرار أم درمان في قلبها لأنها مدينة لا تغادر بيتها، أما المنازل فهي منازل القلوب فيما الأحياء صيغة طليقة.
الصحفيون الكبار جاءوا من نيالا من المطار مباشرة إلى العزاء، والقانونيون قدموا نموذجاً للترافع الوجداني الخصيب، والأطباء زملاء ابنها معز، ورجال الجمارك رفقاء ابنها محمد.
في مأتمها أحسست بعبق السودان بروحه التي تشدني وبنكهته التي تلسعني وبأهله الذين يضيئون في كل عتماته، كل أُجيل النظر فأرى صحافيين وكتاباً وأرى رئيس القضاء وعلي عثمان محمد طه وجمعاً من المحامين وفي ضفة أخرى أرى مديري البنوك، كل هؤلاء زملاء أبنائها. ما أعظم من أن تجعل الأم من ذريتها ما يدل عليها.
كل ما تقاطر الناس اتسع المكان، مثل ما كل ما اتسعت الرؤية كلما ضاقت العبارة، المكان ازدحم بالمعزين وتناسوا المأتم فانسلت الأسئلة وتكاثرت الاستفسارات: الوضع الأمني في نيالا، الإنذارات المبكرة للكهرباء ومدى صمودها أمام الصيف وأمين حسن عمر يُبدي تفاؤلاً رغم فشل المباحثات غير الرسمية في ما كان مولانا عوض النور يقدم شرحاً طفيفاً لثورته العدلية، وشباب (السوداني) عبد الباسط ونبيل يغرقون المأتم بما يتدفق من سلسبيل سوبا. نسي الناس كل شيء وصارت الموضاعات العامة والحوار الوطني ومرحلة ما بعد الحوار قضايا المأتم، لكن شاباً وافر البدن وجهور الصوت قطع كل شيء وأعاد المأتم لغمده بأصابع ماهرة نقرها بصوتها الذي كان يتلالأ فيه برق الدعاء، تقدم نحو المأتم رافعاً يديه للسماء مرسلاً عبارات جذلة تخلط بين الدعاء الرصين والترحم الصادق، كان يرتدي بدلة كاملة من غير ربطة عنق، فرباطة العنق تمنع انسياب الوجد بتلك الجزالة، إنه ابنها كمال بلال القانوني المعروف في هولندا والسعودية. جاء بأول طائرة من الرياض كي يجعل سبابته شاهداً للرياض المنذورة لأمه، تجمع كل الحاضرين وكان يتقدم نحوهم بنأمات تعصر سريرة الحزن من قلب مسلوم، لمحته إحدى النسوة فأرسلت صرخة من بئر حزنها لمجرى الوجد البتول، هنا حدث ما كنت أتحاشاه، فقد رددت عليها بصهيل من الدمع وسرت نحو مجهول لا سبيل معه سوى الدموع.