رأيت رام الله
كان معها كل الحق حين اعتبرت صافناز كاظم أن رواية «رأيت رام الله» لمريد البرغوثي أهم عمل روائي صدر خلال نصف القرن الماضي، لم أكن أتصور أن تلك الرواية كل هذه المتعة ولها كل هذا التقوس.
قبل يومين كنت في اوج طلوع الروح فالشتاء والبرد يمسكان بخناقي ويشعرانني بالضياع، وللخروج من تلك الحالة ملأت الحوض بالماء الدافئ ومكثت لأكثر من ساعة حتى خرجت بنصف مزاج.
تذكرت أن الشاعر القاص يحيى فضل الله تحدث لي عن هذه الرواية بتقريظ ودهشة قبل اعوام خلت، فالتقطتها من الرف واستغرقت فيها ولم أتركها ترتاح حتى صباح اليوم التالي بتوقيت غرب الكرة الارضية. رواية ليس لها بطل بطلها الزمن وكل شخوص الرواية بمن فيهم الراوي وبطلها الحقيقي المكان وياسر عرفات والسادات ولطيفة الزيات ويوسف ادريس وغالي شكري واميل حبيبي ورام الله نفسها ودير غسانة ودار الآداب وسرة الراوي ومهرجانات الشعر وابنه تميم، لكن المنفى هو البطل الحقيقي ضمن كل هؤلاء الأبطال.
أقام مريد البرغوثي بنية ضمت باقتدار جمالي عناصر السيرة الذاتية والقص وحكى رحلة عذاب الفلسطيني محولا التجربة إلى عمل إنساني فذ، فأصبحت الرواية ذوب قلب وعصارة حياة قضاها الشاعر المرموق متنقلا بين المهاجر والمنافي والمنابذ، فصدرت الرواية عن روح فريدة حقا في النظرة السمحة التي ينظر بها للناس وللأحداث.
قليل من الأعمال تلك التي تأسرك، كانت لي هذه التجربة مع «شرق المتوسط» لعبد الرحمن منيف ومع خفة كائن لا تحتمل رقته لميلان كونديرا ومع التبر لإبراهيم الكوني والخبز الحافي لمحمد شكري ومع احلام مستغانمي في ذاكرة الجسد، ولكني اجزم أن ما فعلته بي «رأيت رام الله» لم تفعله جميع ما قرأت من روايات وما انجذبت اليه من كتابات شجية، ميزة مريد البرغوثي أنه فنان مستقل تشعر أنك تقرأه هو دون أصداء تحيط به أو تؤثر عليه هو كاتب مثل البصمة لا تتكرر ولا تقبل القسمة على نفسها، وحين يكون الكاتب بمثل هذه الاستقلالية يستطيع مقتدرا أن يعطيك ما عنده هو وليس ما عنده من صدى الآخرين.
هذه الاستقلالية أكسبته سخرية معتدة ووسعت رؤيته وعمقت مداركه وامتدت للانتماء السياسي والأدبي والموقف العام، انظر عمق النظرة والسخرية من داخل الرواية حين يقول: أكتب باللغة الانجليزية كي يعفني العرب.. في هذه الرواية يحيل البرغوثي الشعر لمواجهة تتجاوز التفعيلة لكنه يخرج منتصرا للشعر.