منصور الصويم

موسى حامد عن «مارس» عائشة الفلاتية


مرة أخرى يسعدني استضافة الأستاذ الكاتب موسى حامد في كتابة توثيقية بهية عن مبدعي بلادي، وهذه المرة يكتب عن الفنانة الرائدة عائشة الفلاتية:
تحكي شقيقتها جدّاوية موسى، إن أول مرة سمعت فيها صوت عائشة (ملعلعاً)، كان في واحدة من قرى الحلاويين بالجزيرة، بعد مغادرتهم أم درمان، كان صوت عائشة منبعثاً من قلب أسطوانة في عربةٍ متحركةٍ تروّج لصابون. كان ذلك في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي. من الأغنيات الملعلعة يومذاك:
يا حنوني، وغالي عليْ يا يمة، غالي عليْ حبيبي.
في تلك الأيام، لم يكن لسودان أواخر الأربعينيات حديث سوى بت الفلاتة (عشّة). صاحبة الصوت الآسر، والأداء اللي هوّ، والأغنيات التي طرقعت آذانهم، ثم سريعاً ولجت الى أمكنة محبتهم، ودهشتهم، واستغرابهم، وانشداههم، وإلى آخرو!!
كانت سيدة بيوت اللعبة، بأغنياتها الخفيفة، بمقياس التُم تُم. تغني ماشاء لها صوتها الغناء. فقد استحقت أنْ تكون وريثةً لكرومة، الذي أعجبها صوته. وطفقت من بعد مرددةً ما حفظته عنه كفاحاً. يوم كانت تجلس مع صويحباتها على السباته، وجوههن على الحائط، ولا يُرى منهن إلا القفا، والأثواب المتلفّعة!!
ثم لمّا ينتهي حفل كرومة، تعقد هي حفلها الذي يخصها، وتختار صويحباتها لتؤدي أمامهن ما حفظته في بيت اللعبة. من هناك بدأت علاقتها بالغناء، وانطلق الاستحسان بصوتها وتجربتها، ولم يقف حتى الآن!!
أبوها المتديّن والمتصوّف سمّاها (عائشة). وفي المحاضر الرسمية هي: عائشة موسى أحمد يحيى إدريس. وعند إسماعيل عبد المعين وعبد العزيز داؤود هي: عشوشة. وعند البعض: الفنجرية، وعند غيرهم: بت الفلاتة.
لكنها كانت تسمي نفسها: عائشة الفلاتية، هكذا!! ولا ترى غضاضةً في نسبة نفسها لقبيلتها التي تعتز بها، إذ أنّ الجميع في نظرها سودانيون، والجميع معتزون بقبائلهم، ولا حرج!!
مؤكد أنّه يوم مريب، وغريب، وعظيم. يوم أن انطلق صوت عائشة الفلاتية عبر إذاعة أم درمان مطالع الأربعينيات. ومؤكد أنه مريب وغريب وعظيم يوم أن سمع الناس الصوت ملعلعاً بأغنية:
يا حنوني، وعليك بزيد في جنوني اللييييييلة.
كثيرون لم يتفهموا أنّ (مرا) هي التي تصدح بالغناء تلك الظهيرة عبر الإذاعة. فالمغنون وقتها (صيّاع)، و(صعاليك)، وسيئو الأدب والأخلاق، وغيرها من النعوت المشينة، فما بالك بأنْ تكون المغنية (مرا)؟
أميتها وانعدام حظها في التعليم، لم يمنعاها من التخطيط لموهبتها، ومن قناعتها بأنّ الفن رسالة. فاتصلت بالصحافة تستعين برأي قادتها. وبزملائها الفنانين أمثال أحمد المصطفى، وعبد العزيز داؤود تطلب مشورتهم، وتستهدي بها. وبالملحنين أمثال أحمد زاهر وإسماعيل عبد المعين، تتعاون معهم، وتختار بنجاضةٍ أجمل الألحان والأغنيات الخالدة الى يوم الناس هذا!!
كما لم تمنعها أميتها، وانعدام حظها في التعليم من تفهم دورها الوطني والفني. فغنّت للجيش، ورافقته محرضة على القتال، وداعية بالغناء أنْ (يجو عايدين). ثم خلّصت العديد من أغنيات النساء -آنذاك- من ابتذالها، وتشوهاتها اللفظية، فألبستها عاطفةً متقدةٍ، واشتهاءً مهذّباً، وافتقاداً لطيفاً!!
لكن السكَّر كان لها بالمرصاد. إذ تسبّب في أنْ تُبتر يدها اليمنى، في العام ١٩٦٩م. وفي أنْ تبتر رجلها اليسرى بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ. ثم في ذات السنة التي بُترت فيها الرجل اليسرى -١٩٧٤- لحق جسدها ما سبقه.
وفي شهر المرأة -مارس- نتذكّرها، ونتذكر مشوارها الفني، وإيمانها بدورها في المجتمع، وبقدرتها على التغيير. فلها ولنا الرحمة.