الدقير نموذجاً
هذا ﻻ يحدث إلا في السودان، كما نصطف للصلاة بحيث ليس هناك صف وﻻ فرش مخصصة لعلية القوم، فـ (برش الصلاة) واحد والوجهة واحدة.. فكذلك نفعل في سرادق المآتم.. كما لو أننا نقتفي أثر أدب اصطفاف الصلاة.. فنصطف بذات المعنى عند سرادق الموت، إن لم توحدنا المحن وتعيدنا إلى ترابيتنا، فلعمري متى نتوحد.. إنها من اللحظات التي نتواضع فيها جميعا على أن (كل الذي فوق التراب تراب)!!
* بالأمس وبوسط مربع خمسة بحي كافوري بالخرطوم، حيث ينصب صيوان الفقيد المرحوم الفريق الفاتح عبدالمطلب، عليه من الله الرحمة والرضوان، طفقت ومن زاوية قصية أحدق في ثنايا المشهد المهيب، فمن لم يأت على متن زمالة القوات المسلحة جاء على متن رفقة الجهاز حيث اللواء عمر عبدالمطلب، ومن لم يأت على ظهر بصات شندي وولاية نهر النيل، أتى على متن عشائر العبابدة والأنقرياب (المانجل فتح الرحمن وصحبه).. و(الكوارتة والشايقية) والعبدلاب وجيرانهم الميرفاب والجعليين.. ومن لم يأت من (سوق الله أكبر) حيث خالد عبدالمطلب.. جاء على متن الجيرة وإخوة الوطن والإسلام، أبي الإسلام وأمي أن افتخروا بقيس أو تميم، باختصار أن السودان كان هناك بكل أمزجته وألوانه واتساع بطونه وإثنياته وتنوع مهنه ومؤسساته.. فمن شدة كثرة الزحام.. وقديما قالت العرب “المورد العذب كثير الزحام”.. من شدة الزحام قد تجد وزيرا أو معتمدا ﻻ يلقى له بالا، وفي المقابل لا يلقي لنفسه اعتبارا على أن عبرة الفقد والموت هنا الأمضى، لكن يظل هذا المشهد حصريا على السودان والسودانيين ..
* كنت يوما في حضرة الأستاذ عبدالباسط سبدرات الوزير الشاعر القانوني.. كنت مستصحفا.. فقال لي إن الوزير في مصر يظل وزيرا حتى وهو يغادر المنصب.. وفي لبنان يظل النائب نائبا حتى هو خارج البرلمان.. وفي كل الأنحاء إلا في السودان تعود كما كنت إلى قارعة الجماهير.. وسرد لي قصة أحد السودانيين وقد خدش إحدى السيارات في دولة عربية.. فانتبه إلى أن الدنيا كلها توقفت لدرجة وصول اللواء مساعد وزير الداخلية.. فسأل أحدهم مندهشا “إيه اللي بيجري؟!” فقال “انت عملتك سودة انت خدشت سيارة زوجة وزير الداخلية” وكان وزيرا أسبق!!
* فعلى كرسي عادي ومن ضمن الحضور كان يجلس على قارعة المشهد الدكتور جلال يوسف الدقير، مساعد رئيس الجمهورية رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، فغير نقاط السوداناوية السمحة هنالك نقاط أدب أخرى تخص المدرسة الاتحادية ذات التواضع الجم.. سيما أشقاء الشريف حسين الهندي، والشيء بالشيء يذكر، كان أحد الصحفيين يسأل ذات لقاء صحفي أحد رفقاء الشريف بقوله: قل لنا شيئا لم يقله أحد في الراحل الكبير الشريف حسين الهندي، قال “إن الشريف إذا جلس لمائدة طعام يأكل مما يليه، فتحى لو كان الصحن الذي أمامه صحن ترمس فإنه ﻻ يجرؤ على تجاوزه” !! سبحان الله.. فأدب الاتحاديين وتواضعهم ضارب في جذور العراقة والقيم، كانت فرصة أن أجلس إلى الدكتور الدقير الذي تجمعنا به بعض مودة وأدب.. قلت إن حزبكم تضرر كثيرا من حالة تواضعكم وأدبكم على أن العج الحزبي يمارسه البعض (بقلة أدب) سياسي.. وفي المقابل أنتم تمارسونه (بكثير من السعة الأدب).. فعلى الأقل إن الآخرين احتاجوا لعقدين من الزمان السوداني المهدر ليفعلوا ما فعله الشريف زين العابدين الهندي منذ نحو عشرين عاما.. ولم تتسوقوا وتتربحوا بتقريش هذا الموقف!! فأضاف لي ملاحظة أخرى ظلوا يدفعون ثمنها باهظا.. وهي قوله بأنهم لا يفرقون في كثير من المواقف بين (الحزب والوطن)، مستدركا: فليكن عزاؤنا أن يربح الوطن وإن خسر الحزب !!
* فلو أن مساعدا للرئيس في بلد حل على سرادق وجمع، وهم يومئذٍ لا يحلون، لقامت الدنيا ولم تقعد.. هكذا جلس رجل الأشقاء الكبير في سرادق فقيدنا بين العامة وكانت جلسته أعظم عزاء وأبلغ سلوى لنا.. على أن أمة هذا أدبها وهذي مروءتها لن تموت لها إرادة، ولن تخمد لها همة، ولن تنطفئ لها جذوة كرامة.. فكلما فقدت عزيزا تكسب في دفتر مروءتها مستودعا من العزة والكرامة والأمل.. شكرا أيها الرجل الكبير.. شكرا لكل أولئك الحضور.. وجزاكم الله خيرا وغفر الله لميتنا وجعل الجنة مثواه.. وﻻ حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..