تحقيقات وتقارير

ما الذي يحدث داخل الحزب الشيوعي؟ ..إدارة الأزمة بالصمت


ما الذي يحدث داخل الحزب الشيوعي؟.. ربما يبدو هذا هو السؤال الذي يؤرق مضاجع اليسار السوداني بصورة كبيرة للغاية بوصفه أكثر الأحزاب اليسارية ديناميكية وتاريخاً وقدرة على تثبيت مواقف مهمة في الخارطة السياسية السودانية، وهو كذلك سؤال يعصف بذهن كثير من المتابعين لحال تقلبات السياسة السودانية، لأن الحزب الشيوعي يعد من اللاعبين الأساسيين فيها، فقادة الحزب ظلوا في حالة صمت إبان أزمة قياداته الأخيرة (د.الشفيع خضر وحاتم قطان وآخرون)، الذين اتهموا بالاجتماع خارج الأطر التنظيمية، وهو صمت لا يقطعه سوى تصريح من الناطق الرسمي بين الحين والآخر بأن ينتظر الناس إلى حين فراغ لجنة التحقيق من تقديم تقريرها النهائي، ولكن استمر هذا الصمت حتى بعد فراغ اللجنة من تقديم تقريرها.
وبحسب الخبر الذي نشرته بعض الصحف، فإن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي رفضت بأغلبية صوت واحد، تقريراً برأ القيادي الشيوعي “الشفيع خضر” وآخرين، من تهمة التآمر والعمل خارج مؤسسات الحزب لتقويضه.
وقالت تقارير صحفية إن “مختار الخطيب”، السكرتير السياسي للحزب، وآخرين، تمسكوا بمحاسبة “الشفيع” إلى حد التهديد بالفصل، وجرى التصويت على اقتراح يقضي بقبول تقرير لجنة التحقيق، وآخر يرفض تقرير اللجنة، وأحرز الأول (15) صوتاً والثاني (16) صوتاً، ليفوز بفارق صوت واحد فقط.
وقالت المصادر إن تقرير اللجنة التي ضمت المحاميين “بشرى عبد الكريم” و”صالح محمود”، أكد براءة “الشفيع خضر” و”حاتم قطان” وآخرين، وإن تقرير اللجنة أوضح أن الشهود الثلاثة الذين قدموا البلاغ المرفوع ضد مجموعة “الشفيع”، أجمعوا على عدم علمهم بأي نشاط لتلك المجموعة خارج مؤسسات الحزب، وأردفت “بل إن أحد الشهود (ع. أ) قد فاجأ اللجنة بإفادة مقتضاها أنه قد استقال من الحزب منذ المؤتمر الخامس لأسباب تتعلق باختراق أمني يشهده الحزب على حد قوله، فانتهى قرار اللجنة بعدم وجود أي تجاوزات من المبلغ ضدهم”.
ونقلت المصادر توصية اللجنة بالتحقيق مع محرك البلاغ، وهو المسؤول الأمني في الحزب، لمعرفة مصدره، وما وراء ذلك الادعاء.
ورغم أن كل أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة تناولت الخبر الذي يتعلق بالحزب، إلا أن قادته لا يزالون يمارسون فضيلة الصمت المطبق ويرفضون التعليق على الخبر أو أي ترتيبات أخرى، بحجة أن ما يحدث للحزب شأن داخلي لا علاقة للآخرين به، ولكن مراقبين يعتقدون أن ما يحدث داخل الحزب يهم الرأي العام بالقدر ذاته الذي يهم الحزب وتنظيماته الداخلية، كون أن الحزب الشيوعي بتاريخه وأثره السياسي الكبير في المشهد السياسي، جدير بالاهتمام ومعرفة ما يدور داخله.
*صراع المحافظين والتجديديين
انقسام أعضاء اللجنة المركزية تجاه تقرير لجنة التحقيق مع د.”الشفيع” ومجموعته، إلى نصفين شبه متقاربين، من قبلوا بلجنة لتحقيق كانوا (15)، وبلغ عدد الرافضين (16)، ربما يؤشر بشكل واضح للعيان أن ثمة صراع قوي جداً داخل اللجنة المركزية للحزب بين فئتين، هما فئة التجديديين والمحافظين، كما أن أنباء الملاسنات التي حدثت تشير كذلك إلى أن ثمة فوارق كبيرة جداً لم تفلح معها محاولات التهدئة، ونورد ما نقلته الصحف قبل فترة طويلة كحقيقة على الأقل في الوقت الحالي، لأن الحزب لم يصدر تصريحاً أو بياناً يفنده أو يؤكده، ورغم أن أجهزة الإعلام الآن مفتوحة ليقول الحزب ما يريد، إلا أنه على ما يبدو فإن الحزب يريد أن يدير كل تلك الصراعات والقضايا التي تهمه بثقافة (تحت الأرض) بدلاً عن ظاهرها الذي يقدم الحقائق لعضويته وللديمقراطيين ولمن يهمهم أمر الحزب الشيوعي.
وبحسب مصدر تحدث لـ(المجهر) فإن الصراع الذي كان مكتوماً بين تلك المكونات وكان يدار على مستوى النقاشات الفكرية، بدا أنه الآن قد تطور ليأخذ الشكل التنظيمي، فمجموعة براغ التي تتبنى الخط السياسي الجامد داخل الحزب، هي التي تتحكم في كثير من مفاصل القرارات داخل الحزب، وربما كانت هي التي سوف تدفع بالمرشح المرتقب “فتحي الضو” ليحل سكرتيراً للحزب، وتقدمه كمرشح للجنة المركزية في المؤتمر القادم ومن ثم اختياره سكرتيراً للحزب الشيوعي خلفاً لـ”محمد مختار الخطيب”، ويعتقد المصدر أن المجموعة عملت منذ وقت باكر على تهيئة الأجواء لعودة “فتحي الضو” لتقلد المنصب باختلاق مشكلة د.”الشفيع خضر” و”حاتم قطان” وبقية القيادات التي تناصبها العداء الفكري داخل الحزب، ومن ثم تصبح هذه القيادات التي تدعو إلى التجديد داخل الحزب، معزولة تماماً عنه، ولعل ذلك يفسر ما انتهت إليه اللجنة المركزية بتغليب مجموعتها الستالينية وصاحبة الأغلبية أن توقف تبرئة المجموعة المتهمة، ويعتقد مراقبون أن هذا الأمر لم يكن جديداً، فقد سبق أن استطاعت ذات القيادة التاريخية من خلال سيطرتها على مفاصل الحزب، أن تأتي بالقيادات التي تؤيدها في الولايات لحضور المؤتمر الخامس للحزب عام 2009، وتهزم دعاة الإصلاح والتغيير، حيث رفض المؤتمر تغيير اسم الحزب واعتبر الماركسية هي المرجعية الوحيدة للحزب، وهذا كان متوقعاً من خلال المركزية الحزبية التي تعتبر أكبر معوق لقضية ديمقراطية الحزب، ويعتقد المحلل السياسي د.”صلاح الدومة” أن محاولات عزل “الشفيع” عن المؤتمر القادم سواء تخلق منه بطل أو (بعبع) خاصة أنه قدم تنازلات كبيرة بتخليه عن الترشح لسكرتارية اللجنة المركزية عقب وفاة “محمد إبراهيم نقد”، ويصف “الدومة” في حديثه لـ(المجهر) أمس د.”الشفيع” بالرجل صاحب الرؤية الواضحة والزاهد في قيادة الحزب، ويملك دراسات عميقة في الدستور.
في ندوة عقدت في “القاهرة”، أواخر عقد التسعينيات من العام الماضي، كمناظرة بين “الخاتم” والدكتور “الشفيع خضر”، قال “الخاتم” إن مسيرته السياسية في الحزب الشيوعي، ودور القيادات التاريخية في الحزب، لا تجعله متفائلاً بنتائج أي حوار، باعتبارها قيادات لم تكن في يوم من الأيام الحرية والديمقراطية جزءاً من تكوينها الثقافي، وهي ما تزال تعيش بأفكار منتصف القرن العشرين العهد الاستاليني، وتمثل الاستالينية المعادية للديمقراطية جزءاً أساسياً من تكوينها الثقافي والنفسي، وقال إذا كان الحزب الشيوعي جاداً في عملية الإصلاح والتحديث، عليه أن يباشر إنجازها من اليوم، ولكن القيادة الحالية ليس لديها أي استعداد أن تعطي الموضوع اهتماماً كبيراً، وقال هذه قضايا ارتبطت بالمصالح الذاتية لتلك القيادات.
وفي ذات اللقاء قال الدكتور “الشفيع خضر”، إن الأحداث التي حدثت في المعسكر الاشتراكي وخاصة الاتحاد السوفيتي، تحتاج إلى قراءة ودراسة فكرية متأنية، وعملية الإصلاح السياسي مسألة مطلوبة، وقال أنا مع أن تكون الماركسية واحدة من مرجعيات الحزب، وليست المرجعية الوحيدة، وأيضاً قضية اسم الحزب تحتاج إلى نظر، ولكن مشكلة “الخاتم” وبقية الزملاء استعجلوا الخروج، وكان من المفترض أن يبقوا داخل الحزب ويدافعوا عن أطروحاتهم الفكرية.
وموقف د.”الشفيع” الذي لم يتغير منذ ذلك الوقت حينما اتفق مع “الخاتم عدلان” على ضرورة التغيير ولكنه اختلف معه في أن يكون التغيير من داخل الحزب، يبدو أنه يدفع ثمنه الآن، ولكن لماذا لا يتحدث “الشفيع”؟
*لماذا لا يتحدث الشفيع؟
في حوار صحفي قال سكرتير الحزب الشيوعي “محمد مختار الخطيب” قبل تقديم تقرير لجنة التحقيق: (هؤلاء خرقوا دستور الحزب باعتبار أننا متفقون على مناقشة قضايا الحزب داخل أجهزته وعندما يخرج آخرون لعقد اجتماعات خارج أجهزة الحزب للاتفاق على رؤية محددة، يكونوا قد ارتكبوا خطأ على أساس أنهم سيفرضون رؤيتهم وفق هذا التكتل، هذا ممنوع داخل الحزب والدستور يقول (لا)، لذلك نحن ضد التكتلات لأنها تربك الحزب وتؤثر في وحدته ولن تكون إرادته موحدة).. انتهى
ورغم أن حديث السكرتير العام كان مسبوقاً بإجراءات إيقاف المجموعة المتهمة، إلا أن د.”الشفيع” الذي نفى صلته بأي تجمع أو اجتماع خارج الأطر التنظيمية عبر بيان وزعه على الصحف، يرفض الحديث تماماً عن هذه الأزمة.. يرفض الحديث في وقت ينتظر منه الجميع أن يتحدث.. فهو الوحيد الذي تجتمع كل خيوط الأزمة الأخيرة عنده عندما يتحدث، ولكنه لا يتحدث.
*عبر “مسجات” واتصالات هاتفية متعددة أجريتها، حاولت من خلالها إقناع د.”الشفيع خضر” بالحديث، أو التعليق على قرار إيقافه من ممارسة نشاطه بالحزب، أبلغني أنه سوف يتحدث بعد صدور قرار لجنة التحقيق، وأوضح أنه سوف يتحدث في كل شيء، وبُعيد صدور القرار مباشرة سعيت إلى الحديث معه إلا أنه لا يزال معتصماً بفضيلة الصمت رغم تقديم لجنة تقصي الحقائق والبت حوله.
أعضاء الحزب صامتون ويحيلون كل محاولات إقناعهم بالكلام إلى الناطق الرسمي الذي يرى أن هذه القضية تهم الحزب الشيوعي وحده، ود.”الشفيع” يرفض الحديث رغم محاولات جره للحديث كثيراً، إلا أنه يبلغني في كل مرة أن أوان الحديث لم يأتِ حتى الآن.
وهذا الصمت الصارخ الذي يمارسه قادة الحزب الشيوعي ربما يعتقد مراقبون أنه لانتظار الأفضل، أو أنه صمت يسبق عواصف عاتية من الحوارات والتصريحات سوف تخرج إلى العلن قريباً تميط اللثام عن كثير مما يدور داخل الحزب الذي تأسس منذ أربعينيات القرن المنصرم.
*هل سوف ينشق الشيوعي؟
السؤال الذي يأتي في ترتيب الأولويات لما بدأنا به هذا الاستعراض هو هل سوف يتعرض الحزب الشيوعي إلى حركة انشقاق داخله؟
واقع الأحزاب السياسية السودانية لا يستبعد هذا الافتراض لجملة أسباب يتعلق بعضها بالتركيبة الديمقراطية داخل منظومة تلك الأحزاب، أو لأسباب أخرى لها علاقة بتباين الرؤى والأفكار والأطروحات، ولكن مصدراً مقرباً نفى ذلك بقوله إن الحزب يضم بداخله عدداً من التيارات الفكرية المتناحرة فيهم الستالنيون والتروتسكيون ومع شيوعية غرب أوروبا، وفيه ناصريون وطنيون وأمميون والعروبيون والأفريقانيون، مبيناً أن بروز هذه التيارات داخل الحزب ليس سبباً لانشقاق كل على حده، بيد أن المحلل السياسي د.”صلاح الدومة” يعتقد أن كل الأحزاب السياسية يمكن أن تكون في حالة انشطار لأنها دائمة الاختلاف في الرؤى والمنهج الذي تسير فيه القيادة، مؤكداً في الوقت ذاته أن الانشقاقات لا تمنع الوصول إلى الهدف، ويواصل “الدومة” بقوله: إن إصرار قيادة الحزب الشيوعي على معاقبة من برأتهم لجنة التحقيق، يعد انشقاقاً واضحاً، وأردف: لا يوجد مبرر واضح لكي ترفض اللجنة المركزية قرار لجنة التحقيق وكان الأجدى لها أن تستبدلها بأخرى أو تتحفظ على بعض ما أوردته ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ترفض قراراتها.

صحيفة المجهر السياسي – تقرير: محمد إبراهيم الحاج