المعزول
ليس لهذا الشخص أي علاقة بالرؤساء العرب الذين أطاحت بهم ثورات شعبية – رقمية في السنوات الأخيرة، كما أن لا أحد في الأساس أمر بعزل هذا الرجل أو أسهم في هذا الوضع المعقد الذي بات يحيا فيه قرابة الأربعة عقود من الزمان. فالرجل اختار أن يكون معزولا من تلقاء نفسه وهو من فرض على الآخرين أن يتعاملوا معه بناء على خياره هذا. أيضا من المهم الإشارة إلى أن عزلة هذا الشخص ليس لها أي علاقة بتلك الأنواع من العزلة ذات الأبعاد الوجودية الشعرية النبيلة، فهو ليس صعلوكا مثل الشنفرى مثلا، وليس عرفانيا متصوفا مثل الحنين شيخ الزين في رواية عرس الزين مثلا، ولا هو مفكرا أو فيلسوفا التجأ إلى العزلة متأملا في دقائق هذا الكون محاولا فهم النفس البشرية الغرائبية، بل بالعكس هو رجل عادي جدا، كره الناس فاعتزلهم وهو بينهم!
وما حدث بالتفصيل يعود إلى ما قبل أربعة عقود انقضت. في ذلك الوقت والرجل في بدايات شبابه متنقلا من داخلية مدرسية إلى أخرى جامعية ومن ظهر لوري إلى سطح قطار اكتشف أن الشيء الوحيد الذي يضايقه ويؤلمه ولا يجد له أي قيمة حقيقية هو الناس، الناس من الطلاب الذين درس معهم من الابتدائي وحتى الجامعة، الناس الذين يصادفهم في المطاعم والأسواق والذين يشاركونه أسطح القطارات وخلفيات اللواري، الناس الذين احتفلوا بختانه وقبوله في الجامعة وتخرجه منها، الناس الذين يحاصرونه في كل مكان بأسئلة عن صحته وكيف نام وكيف استيقظ ومتى يتزوج، ويطلقون في وجهه ابتسامات مقيتة ولزجة، الناس الذين بدأ حصارهم عليه يشتد أكثر عن طريق صغارهم المقلقين المقرفين الملتفين حوله منذ أن تورط بالإمساك بطبشيرة التدريس وصار معلما في إحدى مدارس الأساس.
كيف لمعلم أن يعتزل الناس وهو يدرس أبناءهم ويربيهم ويعدهم لريادة المستقبل؟ هذا السؤال الخطير لم يتوقف عنده أحد، الناس لم يهتموا بمحاولة الإجابة أو حتى طرحه على أنفسهم ما دام الرجل يؤدي مهمته بكفاءة للدرجة التي صار فيها أشهر معلمي مدينته، أما المعزول فقد كيف نفسه من البداية على الطريقة التي يواجه بها هذا الحصار اليومي طوال أربعة أو خمسة أشهر هي مدة السنة الدراسية، أما بقية العام فله وحده، يغوص في نفسه يحادثها ويشاجرها ويواسيها بانتظار عبور ما لم يتحقق طوال ثلاثين عاما.
كيف فعل ذلك؟
نواصل