رأي ومقالاتمقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان إسماعيل : دكتور “الترابي” الذي عرفته (2)

مشاهد ومواقف (2)
دكتور “الترابي” الذي عرفته
“الترابي” المتسامح

تحدثت في المقال السابق مؤبناً الشيخ “الترابي” ولم أتطرق إلى الكثير من صفاته الشخصية التي حباه الله بها، وقد عايشتها عن قرب، فقد تعرفت عليه وأنا صبي في الحادية عشرة من عمري في الصف الأول في مدرسة “القولد” الوسطى في تلك الحادثة التي غيرت حياتي، كان هو وصاحباه “يس عمر الأمام” و”محمد صادق الكاروري” في ليلة خفق قلبي فيها لهتافه (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). عندما جئت لجامعة الخرطوم كنا نذهب إلى منزله يوم (الجمعة)، حيث كان يسكن مع صهره السيد “الصادق المهدي” في منزله بالملازمين بأم درمان، بعد الإفطار نخرج معاً في سيارته (البيجو) إلى منزل المجاهد “الصادق عبد الله عبد الماجد”- مدّ الله في عمره- في حي الدومة بأم درمان، لنذهب معاً إلى جامع “الملك فيصل” بالعرضة لنصلي (الجمعة) مع شيخ “الهدية”- رحمه الله.
أردت أن يكون الحديث على مراحل.. أود هنا أن أتحدث عن “الترابي” المتسامح المترفع عن الدنايا والنقائص تأسياً بسيدي رسول الله “صلى الله عليه وسلم”.. بعث الله محمداً “صلى الله عليه وسلم” بهذا الدين القويم الذي أكمله، وهذه الشريعة السمحة التي أتمها ورضيها لعباده المؤمنين، وجعلهم أمة وسطاً، فكانت الوسطية لهذه الأمة خصيصة من بين سائر الأمم ميزها الله تعالى بها، فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)..(143- سورة البقرة)، فهي أمة العدل والاعتدال التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم. ولقد كان من مقتضيات هذه الوسطية التي رضيها الله تعالى لهذه الأمة اتصافها بكل صفات الخير والنبل والعطاء للإنسانية جمعاء، وكان من أبرز تلك الصفات (العدل، والتسامح، والمحبة، والإخاء، والرحمة، والإنصاف).
لقد جاء الإسلام بالحب والتسامح، والصفح، وحسن التعايش مع البشر كافة، ووطد في نفوس أبنائه عدداً من المفاهيم والأسس من أجل ترسيخ هذا الخلق العظيم ليكون معها وحدة متينة من الأخلاق الراقية التي تساهم في وحدة الأمة، ورفعتها والعيش بأمن وسلام ومحبة وتآلف. ومن تلك المفاهيم: العفو، والتسامح، والصفح عن المسيء، وعدم الظلم، والصبر على الأذى، واحتساب الأجر عند الله تعالى.
حيث جاءت نصوص قرآنية وأحاديث نبوية لتأكيد هذه المفاهيم، وإقامة أركان المجتمع على الفضل، وحسن الخلق ومنها:
قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).. (199- سورة الأعراف).. وقال تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).. (85- سورة الحجر).. وقال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).. (22- سورة النور).. وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).. (134- سورة آل عمران).. وقال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).. (43- سورة الشورى).
ومن السنّة: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله “صلى الله عليه وسلم” شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيئاً من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى). رواه مسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي “صلى الله عليه وسلم” وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك ثم أمر له بعطاء). متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله “صلى الله عليه وسلم” يحكي أن نبياً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) متفق عليه.
وغير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على فضل العفو والصفح عن الناس، وأن يصبر على الأذى لا سيما إذا أوذي في الله فإنه يصبر ويحتسب وينتظر الفرج.
الراحل المقيم د. “حسن الترابي” كان متسامحاً في غير ضعف أو شعور بالدونية، ولم يلحظ عليه أي تشدد أو غلظة أو غلو حتى مع من اختلف معهم فنفسه العالية كانت تسمق فوق كل دنية إلا ما كان يخدش في قناعاته وثوابته، كثيرا ما هاجمه من اختلفوا معه سياسياً أو فكرياً وسفهوا أفكاره، ومنهم من اتهمه بالكفر والزندقة والإحداث في الدين فلم يكن يلقي بالاً لمثل هذه الأمور ولا يكلف نفسه عناء الرد بل كان يربأ بنفسه عن الدنايا.. فقد كان يكن الاحترام لخصومه وأصدقائه على حد سواء وكان يصبر على أذاهم، فكان يأوي إليه الغريم والنديم ولا يصد أحداً ولا يغلق بابه أمام أحد.. وكانت دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالحسنى فمن اختلف معه كان يجابه الاختلاف بالعلم والمعرفة والمناظرات المباشرة، ولا يسيء للأشخاص، ويندر أن يذكر أحداً بسوء. وهذا إن دل إنما يدل على كريم خصاله وروحه السمحة، ولا غرو إنه العالم الحصيف المتواضع، فالعلم يسمو بصاحبه فوق النقائص، والخلاف والتناحر لا يرفعان أحد أبداً وإنما يقعدان ذكر من كان ذكره مرفوعاً.
أعرف أن الكثيرين غيري ممن لازموه أكثر مني يعرفون عنه الكثير والكثير، لكني من باب “اذكروا محاسن موتاكم” ومن باب “وذكر فإن الذكري تنفع المؤمنين” ووفاء لشيخ ومعلم رحل بجسده لكنه باقٍ معنا بأعماله التي هي لنا أسوة حسنة، سأحاول أن أذكر بعضاً من المواقف والمشاهد التي تؤكد وتعضد بعض الصفات التي اتصف بها راحلنا العزيز، ولعلي اخترت أن أبدأ بصفة التسامح التي تميز بها حتى أرسل رسالة لنفسي أولاً ولغيري من السياسيين والدعاة وطلاب العلم خاصة القادة السياسيين، علها تكون زاداً لنا في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها السودان وتمر بها الأمتان العربية والإسلامية. فالقادة والعظماء والأئمة لا تنتهي مسيرتهم بمجرد رحيلهم بل تبقى مئات السنين وما بقيت الحياة.. فإلى مواقف ومشاهد لـ”حسن الترابي” المتسامح.
{ الموقف الأول: عندما حدث الانشقاق في الحركة الإسلامية مؤخراً في ثمانينيات القرن الماضي بسبب موضوع العلاقة مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين حيث كان الدكتور “الترابي” يرى التنسيق ويرفض البيعة بينما مجموعة من الإخوان بقيادة المجاهد الشيخ “الصادق عبد الله عبد الماجد” وبروفيسور “الحبر يوسف نور الدائم” يرون البيعة. كنت وقتها مسؤولاً عن الإخوان السودانيين في بريطانيا وأمثل الحركة الإسلامية السودانية في هياكل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، حدث الانشقاق واختارت مجموعة البيعة الأخ البروفيسور “الحبر يوسف نور الدائم” مراقباً عاماً واعترف به التنظيم الدولي. كان وقع القرار صعباً علينا وعلى معظم العاملين في العمل الإسلامي في الغرب، حيث إن الكوادر السودانية من أمثال “الأمين محمد عثمان”- أطال الله في عمره- في بريطانيا والراحل “أحمد عثمان مكي” في أمريكا ود. “قطبي المهدي” وغيرهم تقوم على أكتافهم وأفكارهم معظم نشاطات العمل الإسلامي في الغرب. كان واضحاً أننا لن ننزع بيعتنا من الدكتور “الترابي”، ولن نبايع الشيخ “الحبر”، كما أن التنظيم الدولي لن يتركنا نعمل ضمن الأطر والهياكل التنظيمية التابعة له إلا إذا بايعنا الشيخ “الحبر”.
تواصلت مع الراحل واتفقت معه ألا ننقل مشاكل بلادنا في الشرق إلى العمل الإسلامي في الغرب وليتركونا وشأننا ندبر أمورنا بالطريقة التي نراها تفيد العمل الإسلامي وتجمع الصف فوافق على الفور. إلا أن قيادة التنظيم الدولي أصرت على موقفها إما البيعة للشيخ “الحبر” أو طردنا من هياكل العمل الإسلامي والمنظمات التابعة له، كنت وقتها رئيساً لـ(الفوسس) أكبر تجمع طلابي إسلامي في بريطانيا وأميناً عاماً لجمعية الطلبة المسلمين وعضواً في مجلس الشورى وفي عدد من الهياكل والمنظمات الإسلامية. في ذلك التوقيت جاء زائراً إلى بريطانيا المرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ “أبو زهرة”، أرفع شخصية في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وألح علينا قيادات العمل الإسلامي في بريطانيا من مختلف الدول بضرورة مقابلته والطلب منه عدم تنفيذ قراره بطردنا وإعطائنا فرصة لمعالجة هذا الأمر وعدم الإصرار على موضوع البيعة لأنه سيقسمنا، وأن نترك كل شخص أو مجموعة وبيعتها ونستمر في العمل معاً. كان الأخ البروفيسور “الطيب زين العابدين”- أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية- موجوداً في بريطانيا فطلبت منه ألا نذهب معاً لمقابلة المرشد العام في مدينة (برادفورد) شمال إنجلترا، فــ”الطيب” أقدم مني في الحركة وأفقه وأفصح مني لساناً، لعل كل ذلك يشفع عند المرشد العام، ذهبنا وقابلنا المرشد العام وللأسف الشديد فشلنا في إقناعه.. أذكر أن المرشد العام- رحمه الله- خاطبنا قائلاً: (المبايع لشيخ “الحبر” هو من الإخوان المسلمين واللي مش مبايع “الحبر” هو خارج الإخوان المسلمين). فقال له بروفيسور “الطيب زين العابدين”: (يا مولانا أنا عمري أربعين سنة في الإخوان المسلمين وغير مبايع للشيخ “الحبر”)، فرد عليه المرشد العام قائلاً: (يا طيب أنت أربعين سنة خارج الإخوان المسلمين). عدنا من لقاء المرشد العام وتم فصلنا من كل هياكل العمل الإسلامي الذي يشرف عليه التنظيم الدولي، وكان وقعه عظيماً وحزيناً على منسوبي العمل الإسلامي في الغرب.
أذكر أيضاً أن الأخ “عصام البشير” كان ضمن مجموعة البيعة للشيخ “الحبر” والتنظيم الدولي واستخدم كل قدراته الفقهية واللغوية في الهجوم علينا حيث كان موجوداً في بريطانيا وهو مكان احترام وتقدير لقيادات العمل الإسلامي في الغرب ونال الدكتور “الترابي” كفلٌ وافٍ من هذا الهجوم. عدت إلى السودان قبل قيام ثورة الإنقاذ الوطني (هذه قصة أخرى سأتعرض لها في حينها) وبعد قيام ثورة الإنقاذ الوطني قمنا بتأسيس مجلس الصداقة الشعبية العالمية ليملأ بعض الفراغ الذي تركه حل الأحزاب السياسية، وجاء الأخ الدكتور “عصام البشير” إلى السودان وجاءني في مكتبي في مجلس الصداقة الشعبية العالمية وطلب مني التوسط بينه والدكتور “الترابي” لإصلاح ذات البين معه، وربما كان الدكتور “عصام” يظن أن هذه تحتاج إلى لقاءات وتهيئة أجواء. غير أنني رفعت الهاتف على الفور وفي ذات اللحظة واتصلت مباشرة على دكتور “الترابي” وكان في مقر المؤتمر العربي بشارع البلدية، قلت له: (معي ضيف هو الدكتور “عصام البشير” نريد تحديد موعد لمقابلتك) رد عليّ: (بإمكانكم أن تأتوا الآن إذا وقتكم يسمح). فذهبا إليه في مكتبه وبعد السلام الحار على د. “عصام البشير” بدأ معه الحديث حول أوضاع الإسلام والمسلمين وانهمكا في نقاش جاد وعميق وكأن العلاقة بينهما سمن على عسل، ثم بعد ذلك ودعناه وخرجنا دون أن يشير إلى دكتور “عصام” بأي لوم أو عتاب. سألني د. “عصام” متى تتم المصالحة والمسامحة؟ قلت له المصالحة والمسامحة قد انتهت هذا اللقاء يجبّ ما قبله، وهذه طريقة الدكتور “الترابي”، وقد ظلا على أفضل ما يكون في علاقتهما إلى أن انتقل الراحل إلى جوار ربه. قال تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) صدق الله العظيم.
نواصل
*وزير خارجية السودان الأسبق- أستاذ العلوم السياسية – جامعة أفريقيا العالمية

تعليق واحد

  1. يا ناس النيلين المحترمين المقال هذا جزء ثاني ، اين الجزء الأول ؟