الخرطوم والـ (BCC) ..رسائل مزدوجة
حوار نادر أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (BCC) مع الرئيس السوداني عمر البشير الخميس الماضي.. ورغم أنه كان حوارا خاطفا لكنه حظي باهتمام كبير نظرا لتوقيته الدقيق.. بل إن بعض التحليلات دلفت لأسباب إجراء الـ (BCC) هذا الحوار وعلاقة ذلك بالموقف البريطاني من السودان باعتبار العلاقة الوثيقة بين الـ (BCC) ومنظومة الفعل الاستخباراتي المرتبط بالسياسة الخارجية البريطانية.. فهل صحيح أن الحوار كان رسالة مزدوجة؛ أي أن موقفا أوروبيا جديدا تجاه السودان تحاول بريطانيا عبر أدواتها الإعلامية بلورته وطرحه، وفي ذات الوقت يؤكد البشير على خدماته السابقة ويذكر بها مع الاستعداد لتقديم المزيد.
بعد سنوات عجاف من العداء البريطاني والأوروبي والغربي عموما للخرطوم، ترى بريطانيا وأخواتها أن سقوط نظام الخرطوم سيحول السودان إلى ملاذ آمن لداعش، بيد أن البشير شرع منذ فترة في تقديم نظام حكمه في صورة نظام تقليدي يعقد صفقات محاربة الإرهاب والإبقاء على الاستقرار الإقليمي خاصة.. ويستند هذا التحليل على صيانة القانون الدولي لمبدأ السيادة..ويدخل في هذا السياق سيادة أنظمة الأمر الواقع وهي أنظمة يحتاج الغرب لاحتواء قادتها خاصة أنهم نجحوا في تثبيت نظم حكمهم لفترة طويلة. وليس خافيا أن المصالح الغربية العليا مقدمة على أجندة نشر الديمقراطيات وحقوق الإنسان.
إن الغرب يسعى لإبطال ثورات الربيع العربي وله محاولات حثيثة باستخدام الأدوات الإقليمية لإعادة إعادة المنطقة إلى النظم التقليدية التي تجيد عقد الصفقات المشبوهة، وهذا المشروع لن يقف مكتوف الأيدي أمام المحاولات الوطنية الساعية لبسط حكم القانون وبسط الديمقراطية وإرساء الحكم الراشد، فالسودان سيكون أثره كبيرا إن قامت فيه دولة العدل والقانون وهذا ضد المصالح الغربية.
ويمكن الربط بين الاتجاه الغربي الجديد تجاه الخرطوم وبين إعلان مسؤول بريطاني من الخرطوم أنهم بصدد بداية حوار استراتيجي مع السودان. فضلا عن إعلان مسئول أوروبي كبير من الخرطوم أيضا منح السودان مليون يورو لمساعدة الحكومة في مكافحة الهجرة وتهريب البشر إلى أوروبا.
يقول البشير في الحوار إن حكومته وافقت على فصل جنوب البلاد وساعدت في الحرب على الإرهاب دون أن يكون لذلك أثر إيجابي في علاقات بلاده بالغرب..وكرر عدم رغبته في الترشح مرة أخرى وأنه سيتخلى عن الحكم بحلول عام 2020، مؤكدًا أنه سيفسح المجال لرئيس جديد بعد هذا التاريخ. لكن الغريب أن محاور الـ (BCC) لم يسأل البشير أنه صرح من قبل بعدم ترشحه لكنه ترشح ليحكم حتى 2020 لتصل سنوات حكمه 31 وهي أطول فترة رئاسية لرئيس سوداني. وأكد البشير خلال الحوار أنه غير قلق من الاتهامات التي وجهتها له محكمة الجنايات الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في إقليم دارفور..ولعل هذا الملف الأهم الذي ينتظر البشير اختراقا حقيقيا فيه.
إن الـ (BCC) التي مر عليها زهاء 83 عاما، غارقة إلى أخمص قدميها في لعبة التوظيف السياسي للإعلام، فهي أداة فعالة في تنفيذ السياسة الخارجية البريطانية بحرفية، فالحقيقة الثابتة أن الإعلام يستطيع أن يُغير من آراء بعض الناس بطريقتين، الأحداث التي يختار الإعلام تقديمها ويبرزها ويسلّط الضوء عليها، والكيفية التي يتم بها معالجة تلك الأحداث وطريقة تحليلها والتعليق عليها.
ولا ننسى في هذا السياق أن قناة الحرة الأمريكية الناطقة بالعربية والتي تزيد ميزانيتها السنوية عن 70 مليون دولار هي جزء من الذراع الطويلة للدبلوماسية الأمريكية العامة في الشرق الأوسط في سعيها للتأثير على العالم العربي والتبشير بالسياسة الأمريكية في المنطقة خاصة فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه العراق. وينظر لقناة الحرّة باعتبارها أكبر وأغلى محاولة قامت بها الحكومة الأمريكية لتغيير الرأي العام في الخارج عبر البث منذ إنشاء صوت أمريكا في العام 1942م. وتحاول الحرة مواجهة قناة الجزيرة التي رأت الإدارة الأمريكية فيها معوقًا أمام محاولات إحلال الثقافة الغربية محل الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة.
لقد أخذ المجهود الإعلامي الأمريكي نحو الجماهير العربية بالتطور والتبلور بشكل لافت للانتباه، وبصورة تتماشى مع تصاعد المجهود الحربي الأمريكي في المنطقة. وهكذا مضت هذه القناة في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. يقول أحد الكُتّاب: “إذا شئت أن تعرف موقف واشنطن من إيران أو كوريا الشمالية أو السعودية أو سورية، فما عليك إلا الإصغاء ليوم واحد فقط إلى برامج “الحرّة” ونشراتها الإخبارية وتعليقات خبرائها الأمريكان ومن يضارعونهم من العرب. ولعل في ذلك فضيلة كبرى تجعل من هذه الفضائية وشقيقاتها لسان حال متواصلا لحركية العقل السياسي الأمريكي وما يفكر فيه أو يخطط له لحاضر المنطقة العربية ومستقبلها.
ال BBC وليس الBCC