منصور الصويم

مربط العجيل


هل للأمطار ذاكرة؟ عاطفة تقذفنا بين الأزمنة حتى نستعيد على ضوء البروق اللحظية أوقات وأمكنة، ووجوها وكلمات، ورائحة وأشجار.. عالم تشكل أمامي، تحت زخات المطر، مع أولى القطرات والانتشار الخفيف لرائحة الدعاش وجدتني أتنقل في الزمن من مكان إلى آخر ومن مرحلة سنية لأخرى.
المطر في المدن يختلف عن المطر في الريف والبوادي، لكنه يحيلك بلا إرادة إلى تلك الصور البهيجة لمطر الريف وروائح دعاشه وهياج وديانه الجارية. هطل المطر كثيفا على رأسي، هنا، في مدينة بعيدة، مطرها شتوي، مياهه غزيرة وبرودته عالية، لكنه مطر، حملني إلى طفولتي وشبابي ومطر آخر كنت أجري سعيدا تحت انهمار قطراته المتسارعة.. عدت إلى نيالا، إلى خيران الأحياء الصغيرة والرمل المبتل بالماء، وتلك الحشرة الحمراء الصغيرة قطنية الملمس التي كنا نسميها ود المطر.. ضحكت تحت المطر في المدينة البعيدة وهرولت.
اعترضت طريقي مياه كثيفة الانهمار، مرت جواري سيارات مسرعة، تلطخت ثيابي بذرات الطين، وتابعت بعيني سفر السحب المثقلة بالمياه وهي تخطو وئيدة صوب الشمال، في أي زاوية من السماء يقبع “مربط العجيل” ببروقه الساطعة وفوران سحبه وهزيم رعده؟ عند أي سماء أقف وعلى أي أرض أسير؛ منزلقا على الماء، أتقافز مثل طائر “الفري” – السمان – في خريف نيالاوي بعيد، مثله أقفز الآن، سعيدا، طريا، استعيد شبابي وضحكات مترعة بالفرح.. أمشي تحت زخات المطر، مبتلا بالماء، مغتسلا بعطر السماء، أمضي في درب ذاكرتي بعيدا في المكان.
تحت الجسور، في المدينة الكبيرة، في يوم المطر العظيم، أبصرت العائلات؛ الأطفال والنساء والآباء والأصدقاء، يجلسون تحت زخات المطر، بمحاذاة المجاري الصناعية الصغيرة، يتابعون في اندهاش انسياب الماء، فوراته الصغيرة، وزبده الهش؛ عبرت من هناك إلى “وادي الكسار”، ووادي “برلي”، في دارفور؛ المياه العظيمة تجري عقب الأمطار الغزيرة، عائلات المدينة – نيالا تخرج بأكملها صوب جنائن ضاحيتي “دوماية” و”كندوا”، يلتفون حول مجري الوادي العظيم يتابعون بشغف جريان المياه الهادرة، تكونات الزبد الحمراء الهائلة منفوشة في الأمد، أشجار بأكملها جرفها السيل، مغامرون صغار يسبحون عكس التيار ووجوههم ترعد بالضحك العنيف.
تحت زخات المطر، كنت أجري، مرتحلا عن المكان، مقصيا نفسي، عن الإسفلت وحوائط الأسمنت والسيارات المسرعة، على أرض طينية لزجة أجري، أسمع من حولي خشخشة أعواد الذرة، قامتي الصغيرة غائبة بين كثافتها وأطوالها الشامخة، طائر ما، أظنه “بلبل” يغرد نافضا الماء عن ريشه المبتل.. تلك الأرض اسمها “ود الميرم”، وتلك السماء سماء دارفور.